لا يمكن الحديث عن المعهد الرّشيدي للموسيقى التّونسيّة دون الحديث عن الموسيقى والغناء في تونس قبل إنشاء هذا المعهد إذ كانت للبرابرة والفينيقيّين والبيزنطيّين وغيرهم ممّن عمّروا هذه البلاد موسيقاهم كما إنتشر الغناء عند الفتح الإسلامي وظهر الفنّ الصّوفي في دولة بني حفص . وفي أيّام العثمّانيّين عرف التّونسيون البشارف التّركيّة وألفوا على نمطها البشارف التّونسيّة مزجوا فيها المقامات التّونسية بالتّركيّة.. وفي عهد عثمان داي (1116هـ) إنتقلت إلى تونس أكبر جالية أندلسيّة وعرف التّونسيّون على أيديهم فنّ المالوف.
وتواصل الإهتمام بالموسيقى و الغناء في العهد الحسيني (1957 - 1705) حيث بقى فنّ المألوف والأغاني الرّاقية في الصّالونات والقصور ولدى عليّة القوم ويرجع الفضل إلى محمّد الرّشيد بن حسين باي (1710 – 1759) في ترتيب نوبة المالوف التّونسي على غرار النّوبة التّركيّة.
ومقابل ذلك لم تتطوّر الموسيقى لدى عموم النّاس من التّونسيّين بالقياس إلى الثّراء الّذي شهدته الحياة الفكريّة والفنيّة وسبب ذلك الجهل الّذي كان سائدا في السّاحة الموسيقيّة فالمتعاطون لهذا الفنّ أغلبهم
استقبال فرقه المؤتمر بكازينو البلفيدير
خت الرشيديّـة يتوسطهم مصطفى صفر وعن يمينه محمد الأصرم - شافية رشدي - خميس ترنان
* المصدر : - كتاب صالح المهدي ومحمد المرزوقي : المعهد الرشيدي للموسيقى التونسيّـة ـ تونس 1981.
- كتاب محمد السقانجي : الرشيديّـة : مدرسة الموسيقى والغناء العربي في تونس ـ تونس 1986.
ليست لهم دراية بعلوم الموسيقى وأصولها نظرا لعدم وجود مؤسّسات لتعليم الموسيقى. كما انتشرت الأغاني السوقية والسّطحيّة وغابت الأغاني التّونسيّة في زحمة إكتساح الأغاني الشّرقية للسّاحة لكن ذلك لم يحل دون حفاظ نخبة من الفنّانين الممتازين على مكانتهم الفنيّة وقيمتهم الأخلاقيّة من أمثال محمّد المغيربي ومحمّد التّريكي وعلي بن عرفة وخميّس ترنان ومحمّد بن عبد السّلام وكيكي خبوله ولالو بالشّيشي وعزّوز السّمار وخيلو الصّغير وآخرين . وقد انتقى منهم البارون ديرلانجي فرقته الموسيقيّة الّتي شارك بها في المؤتمر الأوّل للموسيقى العربيّة بالقاهرة سنة 1932.
لقد حفّت بتأسيس جمعيّة الرّشيديّة عدّة عوامل في مقدّمتها شعور ثلّة من الشبّان التّونسيّين بالخطر المحدّق بالشّخصيّة التّونسيّة وأصالتها العربيّة الإسلاميّة. فقد برزت في توصيات المؤتمر الافخاريستي الّذي إنعقد بتونس في ماي 1930 محاولة إستعمال اللّغة العاميّة بديلا عن العربيّة الفصحى لإبعاد الشّعب عن جذوره وأصوله وكلّ ما يربطه بأشقّائه العرب.
ومن الأسباب أيضا إنتشار الأغاني السّخيفة والسّطحيّة ذات الكلمات المستهجنة الّتي تمّ خلطها بكلمات فرنسيّة واكتساح اللّون الغنائي المصري للسّاحة إكتساحا حجب اللّون التّونسي حتّى أنّ بعض الفنّانين التّونسيّين أصبحوا يقلّدون المصريّين في لباسهم ولهجتهم.
يضاف إلى كلّ هذا المشاركة المشرّفة للوفد في مؤتمر الموسيقى العربيّة بالقاهرة وما تركه من إنطباع طيّب لدى الباحثين والدّارسين في هذا المؤتمر عن الموسيقى التّونسيّة وهو المؤتمر الّذي أنفق عليه البارون ديرلانجي وتوفّي على إثره.
وعندما تحوّل مصطفى صفر مدير التّشريفات بالوزارة الكبرى إلى قسنطينة للمشاركة في مؤتمر الحرمين الشّريفين لمس النّهضة الفنيّة الّتي كانت قائمة هناك وبعودته إلى تونس وجد الحديث في النّوادي بين المثقّفين عن إحداث جمعيّة تعنى بالموسيقى الوتريّة فانضمّ إلى
فرقة الرشيديّـة سنة 1939
حفل استقبال الصحافيين العرب 1946
فرقة الرشيديّـة سنة 1950
هذه النّخبة الّتي كان من بينها جمال الدّين بوسنينة وأحمد الضحّاك فعقدوا عدّة إجتماعات تمهيديّة لوضع الخطوط الرّئيسيّة لهذه الجمعيّة أفضت إلى عقد جلسة عامّة بمكتبة الخلدونيّة في شهر نوفمبر سنة 1934 لتأسيس جمعيّة تعنى بالمحافظة على الموسيقى التّونسيّة الأصيلة وترويجها بين الأجيال الصّاعدة وقد ضمّت هذه الجلسة أكثر من سبعين عضوا من فنّانين وأدباء وإداريّين ومحامين وأطبّاء ورجال أعمال وتجّار مثل محمّد الأصرم ومحمّد الدّرويش ومصطفى بوشوشة والباهي الأدغم وخميّس التّرنان وأحمد إدريس ومحمّد بدرة وعبد العزيز الجميل ومحمّد بن سليمان وأحمد الضحّاك ولالو بشيش وعبد الرّحمان الكعّاك والصّادق الرّزقي وبلحسن بن شعبان والعربي الكبّادي ومصطفى آغة والشّاذلي خزندار ومحمود بورقيبة وجلال الدّين النقّاش وعلي شراد والطّاهر القصّار ومصطفى صفر ورشيد بن مصطفى والمنصف العقبي وعبد العزير الأخوه والطّاهر الزّاوش وبلحس الأصرم وأحمد بن مامي والبشير بولكباش وعلي بوحاجب ومحمّد علي العنّابي وجاك شمامة وفيكتو آربشموط.
واختار مصطفى صفر معه ثلّة من المثقّفين الوجهاء بين محامين وأطبّاء فكوّن منهم مجلس الإدارة وكان متركّبا من الأستاذ مصطفى الكعّاك الّذي تولّى الرّئاسة بعد وفاة مصطفى صفر والحاج الطّاهر المهيري وبلحسن الأصرم والدّكتور خيّاط وأحمد بن عمّار أمينا للصّندوق والمنصف العقبي كاتبا عامّا وعبد العزيز بن شعبان وجمال الدّين بوسنينة وعبد القادر بلخوجة كتابا ومحمّد ابن عبد اللّه والطّاهر الزّاوش مستشارين قد انتخبت هذه الهيئة بإجماع المؤسّسين
وانتخبت الجلسة العامّة لجنة أدبيّة برئاسة الشّيخ محمّد العربي الكبّادي تعنى بوضع الأغاني الرّاقية والنّظر في التّراث الموسيقي من النّاحية الأدبيّة ولجنة فنيّة تشرف على جمع التّراث من حيث الألحان ومراجعة الموجود منه والجديد الّذي ينتجه الملحّنون وكانت هذه اللّجنة برئاسة محمّد الأصرم الّذي عيّن مديرا فنيّا
فرقة الرشيديّــة مع الفنان المصري سامي شوى
الشيخ العربي الكبادي مع ثلة من الموسيقيين في دار الرشيديّـة
فرقة الرشيديّـة سنة 1968
لجمعيّة ولجنة للدّعاية يرأسها أحمد بن مامي مهمّتها التّعريف بهذه المؤسّسة وبأعمالها نشر إنجازاتها على الصّحف.
كما تمّ النّظر في إمكانيّة تدريس الموسيقى وتعليم النّوطة الموسيقيّة للعازفين واقترح بعضهم تسميتها بـ« الفرابية » نسبة للفرابي واقترح آخرون إسم الزريابيّة نسبة لزرياب وهناك من اقترح إسم الأحمديّة نسبة للملك الموجود آنذاك وحسم الرّئيس المسألة باقتراح اسم « الرّشيديّة » نسبة إلى محمّد الرّشيد باي ثالث ملوك العائلة الحسينيّة ) 1710 – 1759 م)الّذي اعتنى بالموسيقى والغناء وكان أديبا فنّانا ميّالا إلى الأنس والطّرب)
كانت الفرقة الموسيقية الغنائية أهمّ أداة لبلوغ الغاية الّتي تأسّست من أجلها الجمعيّة الرّشيديّة وهي الحفاظ على التّراث الموسيقي الغنائي وخاصّة ما كان ينسب منه للأندلس وبعد بضعة أشهر من إحداث الرّشيديّة نظّمت حفلا بالمسرح البلدي سنة 1935 أشادت به الصّحافة واعتبرته نقطة بداية مشرفة.
وقد عهد بتلقين الغناء لخميس الترنان الّذي يلقب بمعلم الرّشيديّة الّذي استمرّ في عمله حتّى عندما آل امر إدارة. الفرقة لمحمّد التّريكي الّذي إتّسم عمله بالجديّة لتمكّنه من التّرقيم الموسيقى وادخاله آلات جديدة على التخت.
ومازاد في ذيوع عمل فرقة الرّشيديّة البثّ الإذاعي لحفلاتها إذ كان للمستمعين منذ إنطلاق أوّل بثّ إذاعي موعد أسبوعي مع الرّشيديّة وقد استمرّ هذا الأمر إلى ما بعد الاستقلال بقليل حيث إلتحق جلّ العناصر العاملة في الرّشيديّة وفي مقدّمتهم خميّس التّرنان بفرقة الإذاعة.
وفي سنة 1958 تمّ تسجيل نوبات المألوف بالإضافة إلى الموشّحات الأندلسيّة والأغاني العتيقة والفوندوات.
وفي هذه الفترة وقع الإستغناء عن الحفلات المباشرة من دار الرّشيديّة في حين بقيت اللّقاءات الجماهيريّة متواصلة سواء أسبوعيّة أو نصف شهريّة بدار الرّشيديّة
محمّد الرّشيد باي
خميس ترنان وأحمد بوليمان ومرافق لهما في برلين
أو بقاعة أحمد الوافي بالمعهد الوطني للموسيقى وبالمسرح البلدي وفي انطلاق الرّشيديّة كانت شافية رشدي مطربتها الأولى.
التّعليم الموسيقى
عندما تأسّست جمعيّة الرّشيديّة لم يكن التّعليم الموسيقى منتشرا لذلك كان من المبادئ الأساسيّة الّتي إرتكز عليها إحداث الرّشيديّة هو إلقاء دروس في الموسيقى للعازفين خاصّة ولهواة الموسيقى عامّة من طلبة وموظّفين . وعلى هذا الأساس بدأ الأستاذ محمّد التّريكي في تدريس الموسيقى بالرّشيديّة وبحلول سنة 1938 بدأت الدّروس الموسيقيّة منتظمة في الرّشيديّة واقبل عليها عدد كبير من هواة الموسيقى.
وقد ساهم في التّدريس كلّ من محمّد التّريكي وعلي الدّرويش وبونورة وعثمان الكعّاك وخميّس التّرنان الّذي اختصّ في تلقين طرق الإنشاد الغنائي للمالوف والموشّحات والأغاني ثمّ إنضمّ إلى هؤلاء بعض التّلاميذ الّذين تخرّجوا من المرحلة الأولى والثّانية والثّالثة وأظهروا مقدرة في تدريس العلوم الموسيقيّة وأبرز هؤلاء التّلاميذ ممّن حملوا مشعل التّدريس صالح المهدي وعبد الحميد السلايتي والطّاهر غرسة وعبد الحميد بلعلجيّة ومحمّد سعادة وتوفيق الذويوي وغيرهم ومن خرّيجي الرّشيديّة من سنة 1944 إلى سنة 1963 عبد الحميد الجزيري وبلحسن فرزة وحمّادي اللّغبابي ومحمّد سعادة وعبد الستّار بن عيسى وصلاح الدّين الجعايبي والنّاصر زغندة ومحمّد علي وحيد ونور الدّين الخروبي وعبد المجيد
فرقة الرشيديّـة مع المطربتين فتحيّـة خيري وشبيلة راشد
فرقة الرشيديّـة مع المطربتين علية ونعمة وغيرهما
عبد الحميد بن علجيّـة يقود الفرقة الرشيديّـة 1973
محمد سعادة أثناء التمارين مع الفرقة 1983
من اعلام الراشدية و مؤسسيها
عبد العزيز الجميل
سلامة حجازي
محمد غانم
خميس ترنان
رشيد بن جعفر
محمد الع?ربي
عبد الرحمان المهدي
الهادي قمام
الشيخ علي الدرويش
الشيخ محمد العربي الكبادي
علي بانواس
محمد بن سليمان
محمد بدرة
صالح المهدي
مصطفى الكعاك
مصطفى صفر
محمد التريكي
عبد القادر بوسحابة
زكرياء بن مصطفى
محمد النيفر
عبد الحميد بن علجيّـة
قدّور الصرارفي
شافية رشدي
صليحة
صاحبو وهادية السّكلاني.
من أعـــلام الرّشيديّة ومؤسسيها :
على امتداد تاريخها ومنذ نشأتها تميزت الرشيدية بأعلامها في مختلف المجالات من أمثال مصطفي صفرومصطفى الكعّاك وعبد القادر بوسحابة من الرواد المسيرين ومن أساتذتها نذكر خميس الترنان ومحمد التريكي وبونورة وعلي الدرويش
كتابة التراث :
خميس ترنان ـ محمد التريكي - صالح المهدي
كتابة التراث :
الحبيب العامري بين خميس ترنان وابراهيم المهدي.
فرقة الرشيديّـة بقيادة لطفي الوكيل 1984
ن مطرباتها شافية رشدي و "صليحة "و "شبيلة راشد" ومن أدبائها العربي الكبادي و الطّاهر القصار وأحمد خير الدّين وعلي الدّوعاجي والهادي العبيدي وجلال الدّين النقاش ومحمد المرزوقي من تلاميذها " قدور الصرارفي" و " صالح المهدي" الذي كان عمودها الفقري منذ الخمسينات إذ ساهم في رئاستها والإشراف عليها وكذلك خميس الحنافي و توفيق الذويوي
هذه قائمة صغيرة علي سبيل الذكر لا للحصر لقائمة طويلة من المسيرين والأساتذة والعازفين والملحنين والمغنين التونسين ممّن زخرت بهم الرشيدية منهم من أشرف على تسييرها ومنهم من تعلم فيها الموسيقي الأصيلة ومنهم من نحت صوته وصقل موهبته و خرج للساحة فنانا ناضجا مكتملا...
وهذه هي صفحات قليلة من تاريخ حافل وثري لقلعة من قلاع الموسيقي في تونس و في الوطن العربي لا تزال شامخة صامدة متجذرة في تربتها... تلك هي الرشيدية التي نهضت بالموسيقي التونسية وارتقت بها وجمعت تراثها الزاخر... الرشيدية ليست كما يتصورها البعض فرقة فقط بل هي مدرسة بكل ما في هذه الكلمة من معاني البناء والتعليم والعطاء ...
وحتي تواصل مسيرتها بنجاح حظيت الرشيدية في عهد التحوّل المبارك برعاية شاملة و دعم كبير من قبل الرئيس زين العابدين بن علي الذي شمل بكريم عط