بحث شامل ومعمق عن العلامة ابن خلدون
يعدّ (ابن خلدون) عبقريّة عربيّة مُتميّزة. فقد كان عالمًا موسوعيّا مُتعدّد المعارف والعلوم، وهو رائد مُجدّد في كثير من العلوم والفنون، فهو المؤسّس الأوّل لعلم الاجتماع، وإمام ومجدّد في علم التّاريخ، وأحد روّاد فنّ "الأتوبيوجرافيا" ـ فنّ الترجمة الذاتيّة ـ كما أنّه أحد العلماء الراسخين في علم الحديث، وأحد فقهاء المالكيّة المعدُودِين، ومُجدّد في مجال الدراسات التربويّة، وعلم النّفس التربوي والتعليمي، كما كان له إسهامات متميّزة في التّجديد في أسلوب الكتابة العربيّة.
نشأة "ابن خلدون" وشيوخه
وُلد "وليّ الدّين أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن الحسن بن جابر بن محمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن خالد (خلدون) الحضرمي" بتونس في [ غرّة رمضان 732هـ= 27 من مايو 1332م]، ونشأ في بيت علم ومجد عريق، فحفظ القرآن في وقت مبكّر من طفولته، وقد كان أبوه هو معلّمه الأوّل، كما درس على مشاهير علماء عصره، من علماء الأندلس الذين رحلوا إلى تونس بعدما ألمّ بها من الحوادث، فدرس القراءات وعلوم التفسير والحديث والفقه المالكي، والأصول والتوحيد، كما درس علوم اللغة من نحو وصرف وبلاغة وأدب، ودرس كذلك علوم المنطق والفلسفة والطبيعة والرياضيّات، وكان في جميع تلك العلوم مثار إعجاب أساتذته وشيوخه.
ومن أبرز هؤلاء الأساتذة والمشايخ: محمد بن عبد المهيمن الحضرمي، ومحمد بن سعد بن برال الأنصاري، ومحمد بن الشواشي الزرزالي، ومحمد بن العربي الحصايري، وأحمد بن القصار، ومحمد بن جابر القيسي، ومحمد بن سليمان الشظي، ومحمد بن إبراهيم الآبلي، وعبد الله بن يوسف المالقي، وأحمد الزواوي، ومحمد بن عبد السلام وغيره.
وكان أكثر هؤلاء المشايخ تأثيرا في فكره وثقافته: محمد بن عبد المهيمن الحضرمي، إمام المحدثين والنحاة في المغرب، ومحمد بن إبراهيم الآبلي الذي أخذ عنه علوم الفلسفة والمنطق والطبيعة والرياضيات.
وباء الطاعون يعصف بشيوخ "ابن خلدون"
وعندما حدث وباء الطاعون الذّي انتشر عام [ 749هـ= 1348م] وعصف بمعظم أنحاء العالم شرقًا وغربًا، كان لهذا الحادث أثر كبير في حياة "ابن خلدون"؛ فقد قضى على أبويه كما قضى على كثير من شيوخه الذين كان يتلقى عنهم العلم في "تونس"، أمّا من نجا منهم فقد هاجر إلى المغرب الأقصى سنة [ 750هـ= 1349م] فلم يعد هناك أحد يتلقى عنه العلم أو يتابع معه دراسته.
فاتجه إلى الوظائف العامّة، وبدأ يسلك الطريق الذي سلكه أجداده من قبل، والتحق بوظيفة كتابيّة في بلاط بني مرين، ولكنها لم تكن لترضي طموحه، وعيّنه السلطان "أبو عنان" ـ ملك المغرب الأقصى ـ عضوًا في مجلسه العلمي بفاس، فأتيح له أن يُعاود الدّرس على أعلامها من العلماء والأدباء الذين نزحوا إليها من (تونس) و(الأندلس) و"بلاد المغرب".
في بلاط أبي سالم
ولكن سرعان ما انقلبت الأحوال بابن خلدون حينما بلغ السلطان "أبو عنان" أنّ "ابن خلدون" قد اتّصل بأبي عبد الله محمد الحفصي ـ أمير "بجاية" المخلوع ـ وأنّه دبّر معه مؤامرة لاسترداد ملكه، فسجنه أبو عنان، وبرغم ما بذله ابن خلدون من شفاعة ورجاء فإنّ السلطان أعرض عنه، وظلّ "ابن خلدون" في سجنه نحو عامين حتى توفّي السلطان سنة [ 759هـ= 1358م].
ولمّا آل السلطان إلى "أبي سالم أبي الحسن" صار "ابن خلدون" ذا حظوة ومكانة عظيمة في ديوانه، فولاّه السلطان كتابة سرّه والترسيل عنه، وسعى "ابن خلدون" إلى تحرير الرسائل من قيود السجع التي كانت سائدة في عصره، كما نظم الكثير من الشعر في تلك المرحلة التي تفتحت فيها شاعريته.
طموح ابن خلدون
وظلّ "ابن خلدون" في تلك الوظيفة لمدّة عامين حتّى ولاّه السلطان "أبو سالم" خطّة المظالم، فأظهر فيها من العدل والكفاية ما جعل شأنه يعظم حتى نَفَسَ عليه كثير من أقرانه ومعاصريه ما بلغه من شهرة ومكانة، وسعوا بالوشاية بينه وبين السلطان حتّى تغيّر عليه.
فلما ثار رجال الدّولة على السلطان أبي سالم وخلعوه، وولّوا مكانه أخاه "تاشفين" بادر "ابن خلدون" إلى الانضمام إليه، فأقرّه على وظائفه وزاد له في رواتبه.
ولكن طموح "ابن خلدون" كان أقوى من تلك الوظائف؛ فقرّر السفر إلى "غرناطة" بالأندلس في أوائل سنة [764هـ- 1362م].
ابن خلدون في غرناطة
وفي "غرناطة" لقي "ابن خلدون" قدرًا كبيرًا من الحفاوة والتكريم من السلطان "محمد بن يوسف بن الأحمر" ـ سلطان "غرناطة" ـ ووزيره "لسان الدين بن الخطيب" الذي كانت تربطه به صداقة قديمة، وكلّفة السلطان بالسفارة بينه وبين ملك قشتالة بِطْرُه بن الهنشة بن أذقونش لعقد الصلح بينهما، وقد أدّى ابن خلدون مهمّته بنجاح كبير، فكافأه السلطان على حسن سفارته بإقطاعه أرضًا كبيرة، ومنحه كثيرًا من الأموال، فصار في رغد من العيش في كنف سلطان "غرناطة".
ولكن لم تدم سعادة "ابن خلدون" طويلا بهذا النعيم، إذ لاحقته وشايات الحاسدين والأعداء، حتى أفسدوا ما بينه وبين الوزير "ابن الخطيب" الذي سعى به بدوره لدى السلطان، وعندئذ أدرك "ابن خلدون" أنّه لم يعد له مقام بغرناطة بل و"الأندلس" كلّها.
وفي تلك الأثناء أرسل إليه "أبو عبد الله محمد الحفصي" ـ أمير "بجاية" الذي استطاع أن يستردّ عرشه ـ يدعوه إلى القدوم إليه، ويعرض عليه أن يُولّيه الحجابة وفاء لعهده القديم له، فغادر ابن خلدون الأندلس إلى بجاية فوصلها في منتصف عام [ 766هـ= 1365م]، فاستقبله أميرها، وأهلها استقبالا حافلا في موكب رسمي شارك فيه السلطان وكبار رجال دولته، وحشود من الجماهير من أهل البلاد.
الفرار من جديد
وظلّ ابن خلدون في رغدة من العيش وسعة من الرزق والسلطان حتى اجتاح "أبو العباس أحمد" ـ صاحب "قسطنطينة" ـ مملكة ابن عمه الأمير "أبي عبد الله" وقتله واستولى على البلاد، فأقرّ "ابن خلدون" في منصب الحجابة حينا، ثم لم يلبث أن عزله منها.
فعرض عليه الأمير "أبو حَمُّو" ـ سلطان "تلمسان" ـ أن يولّيه الحجابة على أن يساعده في الاستيلاء على "بجاية" بتأليب القبائل واستمالتها إليه؛ لما يعلمه من نفوذه وتأثيره، ولكنّ ابن خلدون اعتذر عن قبول الوظيفة، وعرض أن يرسل أخاه يحيى بدلا منه، إلاّ أنّه استجاب إلى ما طلبه منه من حشد القبائل واستمالتها إليه.
ولكنّ الأمور انتهت بهزيمة "أبي حمو" وفراره، وعاد "ابن خلدون" إلى الفرار من جديد بعد أن صار مطاردًا من كل حلفائه.
مولد "المقدمة" في "قلعة ابن سلامة"
ترك ابن خلدون أسرته بفاس ورحل إلى الأندلس من جديد، فنزل في ضيافة سلطانها "ابن الأحمر" حينًا، ثم عاد إلى "المغرب" مرّة أخرى، وقد عقد العزم على أن يترك شؤون السياسة، ويتفرّغ للقراءة والتصنيف.
واتجه "ابن خلدون" بأسرته إلى أصدقائه من "بني عريف"، فأنزلوه بأحد قصورهم في "قلعة ابن سلامة" ـ بمقاطعة ـ"وهران" بالجزائر ـ وقضى مع أهله في ذلك المكان القصيّ النّائي نحو أربعة أعوام، نعم خلالها بالهدوء والاستقرار، وتمكّن من تصنيف كتابه المعروف "كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر"، والذي صدّره بمقدمته الشهيرة التي تناولت شؤون الاجتماع الإنساني وقوانينه، وقد فرغ "ابن خلدون" من تأليفه وهو في نحو الخامسة والأربعين بعد أن نضجت خبراته، واتسعت معارفه ومشاهداته.
ابن خلدون في مصر
وأراد "ابن خلدون" العودة إلى "تونس" فكتب إلى أبي حمو يستأذنه ويرجو صفحه، فأذن له السلطان، فعاد إلى مسقط رأسه، وظلّ عاكفًا على البحث والدراسة حتى أتمّ تنقيح كتابه وتهذيبه، وخشي ابن خلدون أن يزج به السلطان إلى ميدان السياسة الذي سئمه وقرر الابتعاد عنه، فعزم على مغادرة تونس، ووجد في رحلة الحجّ ذريعة مناسبة يتوسّل بها إلى السلطان ليخلي سبيله، ويأذن له في الرحيل.
وصل "ابن خلدون" إلى الإسكندرية في [ غرة شوال 784هـ= 8 من ديسمبر 1382م] فأقام بها شهرًا ليستعدّ لرحلة السّفر إلى "مكة"، ثم قصد ـ بعد ذلك ـ إلى "القاهرة" ، فأخذته تلك المدينة الساحرة بكل ما فيها من مظاهر الحضارة والعمران، وقد وصف وقعها في نفسه وصفا رائعًا، فقال: "فرأيت حضرة الدنيا، وبستان العالم، ومحشر الأمم، وكرسي الملك، تلوح القصور والأواوين في جوه، وتزهر الخوانك والمدارس بآفاقه، وتضيء البدور والكواكب من علمائه، وقد مثل بشاطئ بحر النيل نهر الجنة، ومدفع مياه السماء، يسقيهم النهل والعلل سيحه، ويحيي إليهم الثمرات والخيرات ثجة، ومررت في سكك المدينة تغص بزحام المارة، وأسواقها تزجر بالنعم...".
حفاوة المصريين بابن خلدون
ولقد لقي "ابن خلدون" الحفاوة والتكريم من أهل "القاهرة" وعلمائها، والتفّ حوله طلاب العلم ينهلون من علمه، فاتخذ من "الأزهر" مدرسة يلتقي فيها بتلاميذه ومريديه، وقد تلقّى عنه عدد كبير من الأعلام والعلماء، منهم "تقي الدين المقريزي"، و"ابن حجر العسقلاني".
ولقي "ابن خلدون" احترام "الظاهر برقوق" ـ سلطان "مصر" ـ الذي عيّنه لتدريس الفقه المالكي بمدرسة القمصيّة، كما ولاّه منصب قاضي قضاة المالكيّة، وخلع عليه ولقبه "ولي الدين" فلم يدّخر "ابن خلدون" وسعًا في إصلاح ما لحق بالقضاء ـ في ذلك العهد ـ من فساد واضطراب، وقد أبدى صرامة وعدلا شهد له بهما كثير من المؤرّخين، وكان حريصًا على المساواة، متوخيًا للدقة، عازفًا عن المحاباة.
وقد جلب له ذلك عداء الكثيرين فضلا عن حسّاده الذين أثارتهم حظوته ومكانته لدى السلطان، وإقبال طلاب العلم عليه، ولم يبد "ابن خلدون" مقاومة لسعي الساعين ضدّه، فقد زهدت نفسه في المناصب خاصّة بعد أن فقد زوجته، وأولاده وأمواله حينما غرقت بهم السفينة التي أقلتهم من "تونس" إلى "مصر" بالقرب من"الإسكندرية"، وقبل أن يصلوا إليها بمسافة قصيرة.
ملاحقة الوشاة لابن خلدون
وترك "ابن خلدون" منصبه القضائي سنة [ 787هـ= 1385م] بعد عام واحد من ولايته له، وما لبث السلطان أن عيّنه أستاذًا للفقه المالكي بالمدرسة "الظاهرية البرقوقية" بعد افتتاحها سنة [ 788هـ= 1386م].
ولكنّ وشايات الوشاة ومكائدهم لاحقته حتّى عزله السلطان، واستأذن "ابن خلدون" في السفر إلى فلسطين لزيارة بيت المقدس، وقد بجّل ابن خلدون رحلته هذه ووصفها وصفًا دقيقًا في كتابه التعريف.
ابن خلدون يقابل تيمورلنك
وحينما جاءت الأنباء بانقضاض جيوش تيمور لنك على الشّام واستيلائه على "حلب"، وما صاحب ذلك من ترويع وقتل وتخريب، خرج الناصر فرج في جيوشه للتصدّي له، وأخذ معه ابن خلدون فيمن أخذهم من القضاة والفقهاء.
ودارت مناوشات وقتال بين الفريقين، ثم بدأت مفاوضات للصّلح، ولكن حدث خلاف بين أمراء "الناصر فرج"، وعلم السلطان أنهم دبّروا مؤامرة لخلعه، فترك دمشق ورجع إلى القاهرة.
وذهب ابن خلدون لمقابلة "تيمور لنك" يحمل إليه الهدايا، ويطلب منه الأمان للقضاة والفقهاء على بيوتهم وحرمهم.
العودة إلى القضاء
وعندما عاد "ابن خلدون" إلى "مصر" سعى لاسترداد منصب قاضي القضاة، حتّى نجح في مسعاه، ثم عزل منه بعد عام في [ رجب 804هـ= فبراير 1402م]، ولكنّه عاد ليتولاّه مرة أخرى في [ ذي الحجة 804هـ= يناير 1402م] انتهت بوفاته في [ 26 من رمضان 808هـ= 16 من مارس 1405م] عن عمر بلغ ستة وسبعين عامًا.
ابن خلدون.. مؤسّس علم الاجتماع
يعد ابن خلدون المنشئ الأوّل لعلم الاجتماع، وتشهد مقدّمته الشهيرة بريادته لهذا العلم، فقد عالج فيها ما يطلق عليه الآن "المظاهر الاجتماعية" ـ أو ما أطلق عليه هو "واقعات العمران البشري"، أو "أحوال الاجتماعي الإنساني".
وقد اعتمد ابن خلدون في بحوثه على ملاحظة ظواهر الاجتماع في الشعوب التي أتيح له الاحتكاك بها، والحياة بين أهلها، وتعقّب تلك الظواهر في تاريخ هذه الشعوب نفسها في العصور السابقة.
وقد كان "ابن خلدون" ـ في بحوث مقدّمته ـ سابقًا لعصره، وتأثر به عدد كبير من علماء الاجتماع الذين جاءوا من بعده مثل: الإيطالي "فيكو"، والألماني " ليسنج"، والفرنسي"فوليتر"، كما تأثر به العلامة الفرنسي الشهير "جان جاك روسو" والعلامة الإنجليزي "مالتس" والعلامة الفرنسي "أوجيست كانط".
ابن خلدون "وعلم التاريخ"
تبدو أصالة ابن خلدون وتجديده في علم التاريخ واضحة في كتابه الضخم "العبر وديوان المبتدأ والخبر" وتتجلّى فيه منهجيّته العلميّة وعقليّته الناقدة والواعية، حيث إنه يستقرئ الأحداث التاريخية، بطريقة عقليّة علميّة، فيُحقّقها ويستبعد منها ما يتبيّن له اختلاقه أو تهافته.
أمّا التجديد الذي نهجه "ابن خلدون" فكان في تنظيم مؤلّفه وفق منهج جديد يختلف كثيرًا عن الكتابات التاريخية التي سبقته، فهو لم ينسج على منوالها مرتبًا الأحداث والوقائع وفق السنين على تباعد الأقطار والبلدان، وإنما اتّخذ نظامًا جديدًا أكثر دقّة، فقد قسّم مُصنّفه إلى عدّة كتب، وجعل كلّ كتاب في عدّة فصول متّصلة، وتناول تاريخ كلّ دولة على حدة بشكل متكامل، وهو يتميّز عن بعض المؤرّخين الذين سبقوه إلى هذا المنهج كالواقدي، والبلاذري، وابن عبد الحكم، والمسعودي بالوضوح والدقّة في الترتيب والتبويب، والبراعة في التنسيق والتنظيم والربط بين الأحداث. ولكن يؤخذ عليه أنّه نقل روايات ضعيفة ليس لها سند موثوق به.
ابن خلدون رائد فن الترجمة الذاتية
كذلك فإنّ ابن خلدون يعدّ رائدًا لفنّ الترجمة الذاتية ـ الأوتوبيوجرافيا ـ ويعدّ كتابه "التعريف بابن خلدون ورحلته غربًا وشرقًا" ـ من المصادر الأولى لهذا الفنّ، وبرغم أنّه قد سبقته عدّة محاولات لفنّ الترجمة الذاتيّة مثل "ابن حجر العسقلاني" في كتابه "رفع الإصر عن قضاة مصر" ولسان الدين بن الخطيب في كتابه "الإحاطة في أخبار غرناطة"، وياقوت في كتابه "معجم الأدباء". فإنّه تميّز بأنّه أوّل من كتب عن نفسه ترجمة مستفيضة فيها كثير من تفاصيل حياته وطفولته وشبابه إلى ما قبيل وفاته.
ابن خلدون شاعرًا
نظم ابن خلدون الشعر في صباه وشبابه وظلّ ينظمه حتّى جاوز الخمسين من عمره، فتفرّغ للعلم والتصنيف، ولم ينظم الشعر بعد ذلك إلا نادرًا.
ويتفاوت شعر ابن خلدون في الجودة، فمنه ما يتميّز بالعذوبة والجودة ودقة الألفاظ وسموّ المعاني، ممّا يضعه في مصاف كبار الشعراء، وهو القليل من شعره، ومنه ما يعدّ من قبيل النظم المجرّد من روح الشّعر، ومنه ما يعدّ وسطًا بين كلا المذهبين، وهو الغالب على شعره.
وبعد، فلقد كان ابن خلدون مثالا للعالم المجتهد والباحث المتقن، والرائد المجدّد في العديد من العلوم والفنون، وترك بصمات واضحة لا على حضارة وتاريخ الإسلام فحسب، وإنّما على الحضارة الإنسانيّة عامّة، وما تزال مصنّفاته وأفكاره نبراسًا للباحثين والدارسين على مدى الأيام والعصور.