المراكز البحثية : الأهداف الطموحة والحلقات المفقودة






زاد الاهتمام في الآونة الأخيرة بالمراكز البحثية والمعاهد الفكرية، حيث يسعى كل مجتمع حضاري إلى تأسيس الأطر والأوعية، التي تحفظ منجزاته في شتى فنون المعرفة، وإيجاد المؤسسات التي تدفع إلى تحسين مستوى اتخاذ القرارات، ولذا فلا نبعد إذا قلنا أن تلك المراكز البحثية هي بمثابة المرآة الحقيقة التي تعكس اهتمام الأمم والشعوب بالعلم والمعرفة واستشراف آفاق المستقبل.

وقد انعكس هذا الاهتمام في صور شتى منها عددها الذي يتزايد يوما بعد يوم، وكثرة الحديث عن عمقها التاريخي، ومراحل تطورها، واستشرف أدوارها الحالية والمستقبلية.

فالكثير من الحكومات والأجهزة السياسية المتنفذة الغربية، تعمد إلى مراكز الأبحاث، للاستفادة من خدماتها ودراساتها.. فالولايات المتحدة الأمريكية، على سبيل المثال، ومع بروز ظاهرة الصحوة الإسلامية في العالم العربي والإسلامي بدأت مراكز الأبحاث والدراسات فيها بالاهتمام بهذا الحقل، وجمعت الكفاءات والقدرات الفكرية والسياسية للاستفادة منهم في هذا المجال، للوصول إلى تصور واضح واستراتيجي عن هذه الظاهرة، ومن أشهر مخرجاتها حتى الآن تقرير مؤسسة راند.

وغالبا ما نجد مع نمو أي ظاهرة اجتماعية أو سياسية أو ثقافية أو اقتصادية، ينبري لها أهل الخبرة والاختصاص في الإطار المؤسسي الذي يجمعهم لدراسة تلك الظاهرة، وتقديم نتائج أبحاثهم وخلاصة آرائهم إلى الحكومة أو الأجهزة التنفيذية في الدول الغربية.

وانطلاقا من هذه الأهمية للمراكز البحثية والمعاهد الفكرية واستشعارا بدورها المؤثر في البنية السياسية والثقافية والاجتماعية، تأتي أهمية استكشاف وضعياتها الحالية، وأبعاد الدور الفعلي الذي يمكن أن تؤديه في العالم العربي والإسلامي، والتعرف على أهم المعوقات والمشكلات التي تؤثر في عملها، وسبل ومتطلبات تذليل هذه العقبات.

وتتوارد أسئلة كثيرة لتطرح نفسها على بساط التحقيق: فهل العالم العربي والإسلامي في حاجة إلى مثل هذه المراكز، أم أن ما يقوم بعض الرواد في هذا المجال هو محض تقليد لما يقوم به الغرب؟.. وهل يمكن أن تساهم هذه المراكز بالفعل في إحداث تغيير بنيوي في المجتمعات العربية والإسلامية؟.. وهل أضافت المراكز القائمة معارف مهمة حول المجتمعات العربية وساهمت في حل مشكلاتها الأساسية؟.. وما هي أبرز مظاهر الخلل في عمل هذه المراكز؟..

البيئة المحيطة غير مواتية لتفعيل دور مراكز الأبحاث في العالم العربي
الواقع البحثي جد مؤلم في العالم العربي، من واقع الإحصائيات، التي تقول إن الدول العربية مجتمعة تنفق في هذا المجال أقل مما تنفقه إسرائيل وحدها، وعدد الباحثين في الدول العربية مجتمعة أيضا عام 2007 لم يتجاوز عدد الباحثين في دولة أوروبية واحدة هي فرنسا.

وعن هذا الواقع يقول الدكتور محمد السعيد إدريس الباحث بمركز الأهرام للدراسات والبحوث الاستراتيجية قائلا: المتأمل للواقع العربي سيجد أن البيئة المحيطة غير مواتية لتفعيل دور مراكز البحوث والدراسات، فأغلب الدول العربية تعانى من نقص هائل في الاستثمار في هذا المجال، حيث تنظر الحكومات العربية إلى هذا النوع من الاستثمار على أنه إنفاق هامشي ونشاط ترفي يجرى إنفاق بعض الأموال عليه من أجل الوجاهة الإقليمية والدولية، وليس من أجل تحقيق إنجازات حقيقية.

وإضافة إلى ذلك، كما يقول إدريس، تفتقر الدول العربية إلى البيئة البحثية المناسبة، لذلك فإن ما هو موجود في الوطن العربي من مراكز ومعاهد ومؤسسات بحثية، مع ندرتها، لا يحمل أكثر من مجرد الأسماء، إلا فيما ندر، لأسباب كثيرة منها التمويل غير الكافي للعملية البحثية، ومنها أيضا التبعية المالية والإدارية للحكومات، فأغلب مراكز البحوث والدراسات العربية تابعة بشكل أو بآخر للحكومات نظرا لعزوف القطاع الخاص عن احتضان وتأسيس المراكز العلمية والبحثية، ومنها المناخ السياسي غير الموات للعملية البحثية بسبب غياب الديمقراطية والافتقار إلى الحريات وإلى الشفافية في التعامل مع حرية تداول المعلومات، واحتكارية السلطة التي تجعل نظم الحكم سلطوية وشخصانية بما يكفى لتهميش أي دور استشاري أو ترشيدي لمراكز البحوث في عملية صنع القرارات وفى مقدمتها قرارات السياسة الخارجية.

ويضيف قائلا: بسبب هذه الخصوصيات لا توجد في العالم العربي رغبة حقيقية في بناء قاعدة بحثية حقيقية.. لا توجد إرادة سياسية لفعل ذلك.. ولا يوجد قرار سيادي يدرك أهمية الإنفاق على المراكز البحثية.. والسلطة السياسية لا تعترف بدور هذه المراكز في صنع القرارات وفى صنع السياسة العامة.

لهذه الأسباب مجتمعة، كما يقول إدريس، تدنت مكانة الدور المنوط بمراكز البحوث والدراسات، وتقلصت اهتمامات إنشاء مثل هذه المراكز والمؤسسات الفكرية والعلمية في العالم العربي.
ويختم حديثه قائلا: على وجه التحديد مراكز البحوث والدراسات العربية تجد نفسها أمام مأزقين:
أولهما: مأزق مجتمعي لا يعترف بمكانة العلم والعلماء والبحث العلمي.
وثانيهما: مأزق التخلف السياسي.

الشيخ أحمد بن عبد الرحمن الصويان، رئيس تحرير مجلة البيان ورئيس تحرير التقرير الارتيادي السنوي، يؤكد من ناحيته وبصورة أولية، حاجة الأمة الإسلامية إلى الدراسات الاستراتيجية والمستقبلية التي تحلل وتفسر قضاياها وتضع رؤى واحتمالات مستقبلية تبصِّر من خلالها صانع القرار السياسي والاقتصادي والدعوي والثقافي والفكري.

ويعقب على الوضع الراهن في العالم العربي والإسلامي قائلا: يلاحظ أنه للأسف الشديد ندرة في مراكز الدراسات الاستراتيجية والمستقبلية في العالمين العربي والإسلامي، وإذا وجدت هذه المراكز تكون لنخب محدودة فقط، أكثرها معزول عن الجمهور والناس، وأيضا تعاني من ضعف الإمكانات والموارد ولا تستقطب أجيالا من الباحثين، هذا عكس ما يحدث في الغرب حيث الاهتمام الكبير بالدراسات المستقبلية والاستراتيجية التي تساهم مساهمة مباشرة في صنع القرار السياسي في تلك البلدان.

وضرب الشيخ الصويان مثلاً بتقرير (راند) وقال: إنه يعمل في هذه المؤسسة البحثية - مؤسسة راند - أكثر من 800 باحث، بميزانية لا تقل عن 150 مليون دولار.

نسبة الإنفاق على المراكز البحثية في العالم العربي
وفيما يخص جانب التمويل والإنفاق ، وهو من الجوانب شديدة التأثير على دور هذه المراكز، تقول عضو هيئة التدريس في جامعة الملك فيصل الدكتورة أميمة بنت أحمد الجلاهمة إن نسبة الإنفاق الحكومي على المراكز البحثية في العالم العربي بلغت بحسب آخر الإحصاءات نحو 90.8 في المئة، فيما بلغت نسبة تمويل القطاع الخاص لتلك المراكز نحو 9.2 في المئة فقط.

وعدت الدكتورة الجلاهمة، تدني نسبة مساهمة القطاع الخاص في تمويل المراكز البحثية أمرا مؤسفا يدل على عدم اهتمامه بهذه المراكز أو بدعمها، ونوهت إلى أن هذا الذي يحدث في العالم العربي على عكس ما هو قائم في الدول المتقدمة، حيث تتراوح حصة القطاع الخاص في تمويل المراكز البحثية ما بين 70٪ في اليابان و52٪ في الولايات المتحدة الأمريكية.

وهذا الإسهام الضعيف من قبل القطاع الخاص للمؤسسات البحثية يرجع، في رأيها، إلى عدم تقدير القطاع الخاص لقيمة المراكز البحثية وجدواها، وهو ما يحد من استقلالية هذه المراكز وقدرتها على العطاء الفاعل، كونها مرتهنة بالتمويل الحكومي.

الوطن العربي في أوضاعه الراهنة أحوج ما يكون إلى البحث العلمي الجاد
هذا عن واقع الحال في العالم العربي، أما عن مدى حاجته الفعلية لمراكز التفكير والأبحاث فيقول عبد العزيز بن عثمان بن صقر، رئيس مركز الخليج للأبحاث: إن الوطن العربي في أوضاعه الراهنة أحوج ما يكون إلى البحث العلمي الجاد والرصين، الذي يرسم الاتجاهات الصحيحة، ويقدم إجابات واقعية عن الأسئلة والمشكلات المثارة، وبخاصة في ظل حالة تسارع الأحداث وعدم الوضوح التي تلف منطقتنا من جراء تفاقم المشكلات الداخلية، وتزايد الضغوط الخارجية، وغياب أو ضعف التضامن العربي.

ويشاركه عبد الوهاب الفائز الكاتب الصحفي في جريدة الرياض السعودية رأيه، ويؤكد على أهمية حفز اهتمامنا السياسي والاجتماعي لأجل الدعوة لإنشاء مراكز الأبحاث والدراسات المتخصصة بالشئون المحلية والدولية، أو حتى دعم وتقوية ما هو قائم الآن، سواء ما يرعاه الأفراد بمبادراتهم الخاصة، أو ما تقوم عليه المؤسسات العامة والأهلية.

وقدم الفائز عدة مبررات لدعوته هذه يأتي في مقدمتها:
أولا:ـ التبدل الكبير في طبيعة النظام الدولي بمقوماته السياسية والاقتصادية والثقافية، كوننا في قرن يشهد تحولات عميقة متسارعة لا يمكن فهمها والمشاركة فيها والتأثير عليها بدون رصيد معرفي كبير يقدم مقومات التحليل واستشراف المستقبل ويؤسس الأرضية الفكرية لصياغة الرؤية الوطنية في الاستراتيجيات والأساسيات.
ثانيا:ـ مراكز الأبحاث والدراسات، بالإضافة إلى أهميتها في صياغة الاستراتيجيات الوطنية، نجد حيويتها تتجدد وتتضح في مجال التأثير غير المباشر على العلاقات الدولية، فالمنظمات الأهلية ومنها مراكز الأبحاث والدراسات أصبحت ذات تأثير سياسي ضخم في مجال العلاقات الدولية.

والباحث في العلوم السياسية، المغربي عباس بوغالم، ينوه هو الآخر إلى أن وجود مراكز للأبحاث والدراسات بات من الضرورات المجتمعية الملحة في الوقت الراهن، فالتحديات الكبرى التي نواجهها على جميع المستويات والمجالات، داخليا وخارجيا تفرض علينا ضرورة المواجهة والارتفاع إلى مستوى العصر الذي نعيش فيه، مواكبة تطوره، امتلاك القدرة على المساهمة في صياغة المستقبل، والمساهمة في البناء الحضاري للإنسانية، وألا تقنع الأمة المسلمة باحتلال المقعد الخلفي في ركب الحضارة الإنساني.

ويقول بوغالم إن مواجهة التحديات الحضارية لا يتأتى من خلال مجهودات ومبادرات فردية، ولكن من خلال عمل مؤسس وممنهج وفق رؤية وتصور واضحين من جهة، وتضافر جهود كافة الطاقات والكفاءات العلمية والفكرية في مختلف المجالات العلمية والحقول المعرفية من جهة ثانية، وهو ما يتطلب إيجاد بني مؤسسية بحثية حاضنة ومستوعبة لهذه الكفاءات والطاقات العلمية، تكون كفيلة بتوفير الظروف والشروط المناسبة لممارسة التفكير الجماعي المؤسس.

مراكز الأبحاث ليست مجرد مراكز لتجميع المعلومات، ولكنها مراكز لإنتاج الأفكار
الدكتور نصر محمد عارف أستاذ العلوم السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بالقاهرة يدخل للوظيفة الرئيسة للمؤسسات البحثية التي يمكن أن تؤديها في العالم العربي والإسلامي من باب التاريخ فيقول: إن أزمة الفكر الإسلامي في تاريخه حدثت عندما لم تنشأ مؤسسات فكرية قادرة وكافية في زمانها ومكانها على إنتاج الأفكار أو صقلها أو على حملها وتوصيلها.. فالتراخي الذي حدث في الدقة العلمية الواجبة في التكوين العلمي للباحثين، ودخول فئة بين طائفة أهل العلم ممن ليست منهم، وضغط قوة السلطان على العالم، كل هذه الأشياء حالت دون أن يتحول العالم أو العلم من إنتاج فردي إلى إنتاج مؤسسي، ومن ثم فأزمتنا على مر التاريخ هي عدم القدرة على تأسيس مراكز التفكير والبحث.

ويضيف الدكتور عارف إن دور هذه المراكز ليس مجرد تجميع المعلومات، ولكنها مراكز لإنتاج الأفكار، وعملية صنع الأفكار لا تتم لذات الأفكار، فالفكر أصبح له علاقة حتمية بالواقع وما ليس له تأثير في الواقع لا قيمة له.
فالأفكار، كما يقول الدكتور عارف، عندما تصنع لا يتم الوقوف عند صنعها، وإنما يتم نقلها للمجتمع من ناحية ولصانع القرار السياسي من ناحية أخرى، من خلال وسائل متعددة، ويحدد أطوار هذه العملية في ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: صناعة الفكرة.
المرحلة الثانية: تأهيل المجتمع لها.
المرحلة الثالثة: أن توضع في يد السياسي ليبني عليها قرارات وسياسات، فتكون هذه القرارات والسياسات مقبولة اجتماعيا.

وحدد عارف عددا من السلبيات التي تتصف بها المراكز البحثية القائمة حاليا في المجتمعات العربية منها:
أولا:ـ عدم وضوح الوظيفة: فمعظم هذه المراكز العربية لا يوجد لديها وضوح في الوظيفة، أي أنها تتصف بغياب وجود مجال معين للتخصص.

ثانيا:ـ عدم وضوح الهدف: حيث تفتقد هذه المراكز بدرجات متفاوتة وضوح الأهداف، فهي لم تحدد أهدافها سواء كانت أكاديمية فكرية أم سياسية أم هما معا وبأية نسبة.

ثالثا:ـ فقدان الاستقلالية: فهذه المراكز مفتقدة للاستقلال المالي؛ لأنها لا تبنى، لا على أوقاف ولا على مؤسسات تمويل مستقلة، ومن ثم تكون خاضعة لعلاقات تبعية حزبية أو سياسية.

رابعا:ـ البعد عن الواقع: فهذه المراكز مقطوعة الصلة بالواقع وهو ما يشكل الداء القاتل لهذه المؤسسات، لأنها لا تستطيع، أن تقنع المجتمع بخلاصاتها، ولا صانع القرار بتوصياتها، ولا تستطيع أن تجذب رجل الأعمال أو الإداري أو صاحب الرأسمال؛ لأنها لا تستطيع أن تقدم له مصلحة، فيساهم في تمويلها.

المراكز البحثية في العالم العربي هي أقرب إلى مؤسسات علاقات عامة
وعن الفروقات بين المراكز البحثية العربية ونظيرتها الغربية يقول الدكتور محسن صالح مدير مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات: لم يجافِ الحقيقة أولئك الذين أطلقوا على مراكز الدراسات والأبحاث تسمية "خزانات التفكير"، فالحكومات في العالم الغربي تستشيرها وتطلب خدماتها، لأن النظام السياسي وطريقة صناعة القرار هناك هي عملية معروفة ومستقلة، فضمن دائرة صناعة القرار تحتل المراكز موقعا مهما، فهذه المراكز تشكل حلقة رئيسة إلى جانب الدوائر التشريعية والدستورية في تلك البلدان، أما في عالمنا العربي هناك مشكلة في موضوع التعامل مع مؤسسات الدراسات الاستراتيجية ومراكزها، بوصفها مساهمة في صناعة القرار، وذلك يعود لعدة أسباب:
أولا:ـ المشاكل المتعلقة بالأنظمة السياسية في العالم العربي، حيثغياب الديمقراطية وغياب العمل المؤسسي، والنزعات الفردية في الحكم.

ثانيا:ـ حالة الانبهار في العالم العربي بالمؤسسات الغربية، وعدم الثقة والاحترام للدور الذيتقوم به المؤسسات المحلية.

ثالثا:ـ المؤسسات والمراكز في العالم العربي هي أقرب ما تكون إلى مؤسسات علاقات عامة، ولا تقوم بالدور المنوط بها كمؤسسات دراسات حقيقية، إنما تكون في بعض الأحيان غطاء لأحزاب أو جهات أو أشخاص، وتخدم أغراضهم الخاصة، وهذا يسيء إلى سمعة المؤسسات ومهنيتها.

رابعا:ـ أن الأنظمة العربية لا تقدم الدعم والتشجيع لهذه المؤسسات، هذا إن لم تلاحقها وتضيق عليها.
ويضيف الدكتور والباحث اللبناني مسعود ضاهر إن بعض مراكز الأبحاث والدراسات في الوطن العربي تصنف نفسها في خانة المراكز الاستراتيجية من دون أن يكون لها دور فاعل في تنفيذ استراتيجية سليمة للنهوض بالعالم العربي، فهي أشبه ما تكون بدور للنشر، كما أن المؤتمرات أو الندوات التي تعقدها تلك المراكز، تكتفي بإصدار عددمحدود من الدراسات الموضوعة أو المترجمة، وبشكل خاص من اللغة الانجليزية، ومع أن تلك الأبحاث المنشورة تعتبر من الدراسات العلمية المحكمة، فإن أثرها في العالم العربي ما زال محدودا للغاية.

ومن خلال هذا العرض والاستطلاع لأراء طائفة من الباحثين والمهتمين يمكننا استخلاص النتائج التالية:
أولا:ـ المعاهد الفكرية والمراكز البحثية،على العموم، هي من الأنماط الحضارية المتقدمة في الاهتمام بالحقل المعرفي والعلمي والتي تساهم وتهدف إلى:
1ـ تركيز وتكثيف الجهود العلمية المتخصصة، حيث تعد هذه المراكز وعاء مستفزا ومستوعبا للجهود المبذولة، مما يرجع على الباحثين، وذوي الاهتمام الفكري والبحثي، والمجتمع بالفائدة...فالباحث يستفيد من التلاقح الفكري والعصف الذهني والزخم المعلوماتي الذي توفره تلك المراكز، ويستفيد المجتمع من الإنتاج الفكري والبحثي.
2ـ دعم صناع القرار، فرجل السياسة والتنفيذ بحاجة إلى الجهود البحثية المركزة، التي تبلور له الخيارات وتوضح له السياسات، وتفصل له القضايا بشكل علمي ودقيق، بما يسهل عليه استيعاب القضايا واستراتيجيات التعاطي معها.
3ـ تطوير الحياة المعرفية، عن طريق أنشطتها المختلفة، فتقدم وتطور الحياة الثقافية والعلمية، غالبا ما يكون من ورائه مؤسسات ومعاهد ومراكز للبحوث والدراسات في مختلف الحقول والاختصاصات، حيث تقوم هذه المراكز بمد الساحة بالمعلومة الموثوقة، والتحليل العلمي الرصين.
4ـ فتح الآفاق لرؤية المستقبل بتصور علمي متزن بعيدا عن العواطف الفكرية، والآراء الغالية الجموحة التي تنطلق من تصورات ومنطلقات غير دقيقة ولا علمية.

ثانيا:ـ مع هذه الأهداف والمساهمات التي يمكن أن تنجزها المراكز البحثية إلا أنها في عالمنا العربي والإسلامي ما زالت تعاني من مجموعة من الإشكاليات التي تعيق وتترك بصمات سيئة على أدائها منها:
1ـ الفاعلية المحدودة:
المراكز البحثية في العالم العربي ذات فاعلية محدودة، وهذا نابع من كونها أقل تفاعلا مع البيئة المحيطة بها، ومساهمتها في إيجاد الحلول المناسبة للمجتمعات التي تحتضنها محدودة، وبذلك بقيت في غالبها مجرد هياكل إدارية معزولة، اخرج أبحاثا يعلوها التراب، ولا تجد من يلتفت إليها إلا نادرا، وهذا على خلاف مراكز البحوث والدراسات الغربية، والتي ارتبطت مباشرة بمراكز صنع القرار والقطاعات ومراكز الإنتاج المهمة لتساهم في إيجاد الحلول المناسبة لمشكلاتها.
2ـ الموضوعية المفتقدة:
فالكثير من مراكز البحوث والدراسات تعد امتدادا أيدلوجيا وسياسيا، لنظام سياسي معين، ومن ثم لا يعد المركز البحثي إلا جزءا من الترسانة الفكرية التي يسعى من خلال نشاطه وأعماله البحثية، إلى توظيفها بما ينسجم ورغبة هذا النظام أو ذاك.
.
ثالثا:ـ الرؤية الغائبة:
غالب المراكز البحثية في العالم العربي والإسلامي تتحرك بمنهج الإدارة اليومية، وتمارس عملها ودورها بسياسة ردود الأفعال، دون رؤية محددة وأهداف واضحة المعالم، ودون الولوج إلى التخصص العلمي الذي يتيح له فرصة الإبداع.
وفي الأخير نقول: إن نهضة هذه المراكز تحتاج إلى أن ترتبط بواقعها وتبدأ منه، وأن تبار بتقديم الحلول لمشكلات مجتمعها وأمتها، وعدم الركون إلى التوصيف، ورصد المعلومات، أو ممارسة نوع من الخطاب النخبوي وفقط.