شريف عمر
09-01-2010, 11:46 PM
كان انتقال زرياب , من بغداد (العباسية) إلى قرطبة (الأموية), نقطة تحول بالغة الأهمية في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس, لأن ابتكاراته وتجديداته لم تقتصر على الغناء والموسيقى, ولكنها امتدت لتشمل حياة المجتمع الأندلسي.
زرياب هو أبو الحسن علي بن نافع, واشتهر بلقب ( زرياب ). وهو اسم (الطير الأسود) ذي الصوت الرخيم. ويقال إنه لقب بذلك (من أجل سواد لونه وفصاحة لسانه وحلاوة شمائله). أما كلمة ( زرياب ) فهي فارسية الأصل وتعني (ماء الذهب). ولد زرياب في بغداد عام 161هـ/777م. ويبدو أن والده كان من الوافدين إلى بغداد, وكان زرياب من موالي الخليفة العباسي المهدي (ت169هـ/785م). تعلم زرياب فن الغناء والموسيقى في بغداد على يد إسحاق الموصلي (ت235هـ / 850م), الذي كان صاحب مدرسة للغناء والموسيقى في العاصمة العباسية, والموسيقار المفضل لدى الخليفة هارون الرشيد (ت193هـ/ 809م). وإذا كان زرياب قد أخذ في بداية حياته الفنية بعض ألحان أستاذه ووضعها في أغان جديدة له مع شيء من التغيير والتطوير, فإنه سرعان ما انطلق مستقلاً في ألحانه وأغانيه, بحيث لم تمض سنوات قليلة حتى أتقن (صناعة) الغناء والموسيقى اتقاناً فاق فيه أستاذه, لا سيما أن الكثير من عناصر النبوغ والإبداع كانت متوافرة في شخصيته.
في بلاط الرشيد
شاءت الظروف أن يطلب الخليفة هارون الرشيد من إسحاق الموصلي أن يرشح له مغنياً بارعاً, فذكر له تلميذه زرياب , وقال إنه قد اتقن الغناء والموسيقى على يديه, ويتوقع أن يكون له شأن كبير في مقبل الأيام. فطلب الرشيد منه أن يصطحبه معه إلى مجلسه. وبالفعل حضر زرياب برفقة أستاذه إلى مجلس الخليفة. ودار حوار بين الرشيد وزرياب حول بعض المسائل الفنية, ثم سمع ألحانه وغناءه, فأعجب به إعجابا شديداً, بل دهش بما انطوت عليه شخصيته من عقل ومنطق ومواهب فنية. ويحسن بنا أن ننقل مقتطفات من هذا الحوار كما ورد في أحد المصادر الأصلية (.. فلما كلمه الرشيد (أي كلّم زرياب ) أعرب عن نفسه بأحسن منطق وأوجز خطاب, وسأله عن معرفته بالغناء فقال زرياب (نعم أُحسن منه ما يُحسنه الناس, وأكثر ما أُحسنه لا يحسنونه, مما لا يحسن إلا عندك ولا يدَّخر إلا لك, فإن أذنت غنيتك مالم تسمعه أذن قبلك). فأمر الرشيد عندئذ بجلب عود أستاذه إسحاق, ولكن زرياب رفض العزف عليه وقال (لي عود نحته بيدي وأرهفته بإحكامي, ولا أرتضي غيره, وهو بالباب, فليأذن لي أمير المؤمنين في استدعائه, فأمر الرشيد بإدخاله إليه. فلما تأمل الرشيد عود زرياب , وكان شبيهاً بعود إسحاق, فقال له الرشيد: ما منعك أن تستعمل عود أستاذك? فقال زرياب : إن كان مولاي يرغب في غناء أستاذي غنيته بعوده, وإن كان يرغب في غنائي فلابد لي من عودي. فقال له الرشيد: ما أراهما إلا واحدا (أي أن العودين متشابهان). وهنا شرح زرياب للخليفة الفروق بين عوده وعود أستاذه, منها مثلاً أن وزن عوده يساوي ثلث وزن عود أستاذه, وأن بعض أوتار عوده من الحرير وبعضها الآخر من مصران شبل الأسد, مما يجعل ترانيم عوده أكثر صفاء ووضوحا, فتعجب الرشيد من وصف زرياب لعوده, ثم أمره بالغناء, فاندفع يغنيه قصيدة من تأليفه, يمدح فيها الخليفة, ومنها قوله:
يا أيها المَلِكُ الميمونُ طائرُه هارونُ راح إليك الناسُ وابتكروا
وبعد أن أتمَّ زرياب النوبة (طار الرشيد طرباً). ثم سأل الرشيد إسحاق الموصلي معاتبا:ً لماذا أخفى عليه هذا المغني ولم يقدمه له حتى الآن, فبرر إسحاق له ذلك بقوله إن زرياب نفسه كان قد أخفى تلك المواهب عنه. ثم طلب الرشيد من إسحاق أن يهتم بزرياب (حتى أفرغ له فإن لي فيه نظرا).
زرياب يهجر بغداد
يبدو أن إسحاق الموصلي ندم أشد الندم على اصطحاب تلميذه زرياب إلى مجلس الرشيد, لأنه شاهد بأم عينه مدى إعجابه به, وأدرك أنه إذا سطع نجم زرياب فإن ذلك سيكون على حساب منزلته ومستقبله, لا سيما أن ما قدمه زرياب من أغان وألحان في مجلس الخليفة فاق ما كان يقدمه إسحاق نفسه. ولهذا دبَّ الحسد - الذي هو داء كل العصور - في قلب الأستاذ تجاه تلميذه, وقرر التخلص منه بأي ثمن كان. واللافت للنظر أن إسحاق كان واضحاً مع زرياب , حيث شرح له أن الحسد بين أبناء الصنعة الواحدة شر يصعب تجنبه, وطلب منه أن يختار بين أمرين : إما أن يغادر إلى أي مكان في أرض الله الواسعة, وإما أن يقيم في بغداد على كره منه, وعليه, والحالة هذه, أن يتحمل مما سيلحق به من أذى بما في ذلك الاغتيال. وبعد أن سمع زرياب هذا التهديد الواضح من إسحاق وجد أنه من الحماقة أن يبقى في مدينة يتمتع فيها أستاذه بنفوذ لا طاقة له بمواجهته, ولهذا قرر مغادرة العراق إلى المغرب, وقد أعانه إسحاق نفسه على تنفيذ قراره هذا. وبذلك أفسد الحسد الفرصة على زرياب في بغداد الرشيد. وقد أكد هذه الحقائق كلها ما أورده المقري حين قالهاج به (أي بإسحاق) داء الحسد.. فخلا بزرياب وقال له: يا علي : إن الحسد أقدم الأدواء, والدنيا فتانة والشركة في الصنعة عداوة لا حيلة في حسمها, ولقد مكرت بي فيما انطويت عليه من إجادتك وعلو طبقتك, وقصدت منفعتك فإذا أنا قد أتيت نفسي من مأمنها بإدنائك, وعن قليل تسقط منزلتي وترتقي أنت فوقي, وهذا ما لا أصاحبك عليه.. فتخير في اثنتين لا بد لك منهما: إما أن تذهب عني في الأرض العريضة لا أسمع لك خبراً وإما أن تقيم على كرهي.. فخذ الآن حذرك مني, فلست والله أبقي عليك ولا ادع اغتيالك باذلاً في ذلك بدني ومالي.. فخرج زرياب لوقته وعلم قدرته على ما قال, واختار الفرار, فأعانه إسحاق على ذلك, فرحل عنه ومضى يبغي مغرب الشمس, واستراح قلب إسحاق منه).
الطريق إلى الأندلس
اتجه زرياب من العراق إلى المغرب, فنزل, بداية, في مدينة القيروان, عاصمة الأغالبة, حيث غنى لأميرهم زيادة الله الأول (816 -837 م). والواقع لا نملك معلومات كثيرة عن فترة إقامته في بلاط الأغالبة. ولكن حدث أن غضب الأمير من زرياب غضباً شديداً بعد أن غنى له شعراً لعنترة العبسي اعتبره إهانة له. فأمره أن يخرج من بلاده. وقال له, كما يذكر ابن عبد ربه في كتابه (العقد الفريد) : (إن وجدتك في شيء من بلدي بعد ثلاثة أيام جزيت عنقك). وبالفعل اضطر زرياب إلى مغادرة القيروان متجهاً إلى المغرب الأقصى عام 821 م بعد أن هدد بالقتل, كما سبق له أن غادر بغداد بعد أن هدد بالقتل أيضاً. وتؤكد المصادر أن زرياب بعث كتاباً إلى الأمير الأموي في الأندلس آنذاك وهو الحكم بن هشام (796-828 م), يخبره فيه عن مكانته في صناعة الغناء والموسيقى, ويُعرب له عن رغبته في القدوم إليه وأنه اختاره بين سائر الملوك والأمراء ليكون في خدمته. ومع أننا لا نعرف متى خاطب زرياب الحكم? وهل كان ذلك خلال إقامته في القيروان? أم بعد مغادرته لها? ولكن من المؤكد أن زرياب لم يجتز مضيق جبل طارق إلى الجزيرة الخضراء - الواقعة على الجانب الأندلسي - العام (821 م) إلا بعد أن تسلم كتاباً من الأمير الحكم يتضمن الترحيب به والرغبة في لقائه. وعندما وصل زرياب وأفراد عائلته إلى الجزيرة الخضراء كان في استقباله على أرضها وفد مرسل من قبل الحكم لاستقباله والترحيب به ومرافقته إلى بلاطه في قرطبة. وكان هذا الوفد برئاسة مغني يهودي اسمه منصور, ولكن شاءت الظروف أن يصل نبأ وفاة الحكم قبل أن يغادر زرياب الجزيرة الخضراء إلى قرطبة. وهنا تردد زرياب في متابعة رحلته, إذ وجد من الحكمة أن يعود إلى المغرب لأن الأمير الذي دعاه قد وافاه الأجل. وهنا تدخل منصور لإقناع زرياب بالتوجه إلى بلاط الأمير الجديد وهو عبد الرحمن بن الحكم, الذي عرف في التاريخ باسم عبد الرحمن الثاني أو الأوسط (822-852م), كما أبلغ منصور الأمير الجديد بتردد زرياب , لهذا وصل كتاب من الأمير عبد الرحمن إلى الجزيرة الخضراء يتضمن دعوة زرياب إلى قرطبة, ويعرب له فيه عن شوقه وتطلعه إلى لقائه في بلاطه. كما كتب الأمير نفسه إلى ولاته على البلاد التي سيمر بها زرياب بأن يحسنوا استقباله ويقدموا له كل العون والمساعدة حتى وصوله إلى قرطبة. وإضافة إلى ذلك كله أمر عبد الرحمن أحد كبار رجال التشريفات في قصره بأن يكون في استقبال زرياب قبل وصوله إلى العاصمة. ودخل زرياب وأهله قرطبة في إحدى الليالي من عام 822 م, وتم إنزاله في دار من أحسن دورها وحمل إليها جميع ما يمكن أن يحتاج إليه.
ربما كان ترحيب الأميرين الأمويين بزرياب, الحكم وابنه عبد الرحمن, والإلحاح الشديد عليه للقدوم إلى الأندلس, يدل على أن شهرته الفنية كانت قد سبقته إلى تلك البلاد, كما يعكس رغبة بني أمية في قرطبة في أن يكون بينهم فنان بهذه الكفاءة لمنافسة إسحاق الموصلي فنان بني العباس في بغداد. ويكشف هذا الترحيب, من ناحية أخرى, خلو البلاط في قرطبة آنذاك من مغنين وموسيقيين على درجة عالية من الكفاءة والمقدرة, والدليل على ذلك أن المصادر تشير إلى أن أول من دخل الأندلس من المغنين هما: علون وزرقون, وكان ذلك في أيام الحكم بن هشام نفسه (796 -822 م), ولكن بمجرد وصول زرياب تخلى الأمير عبد الرحمن عنهما (لغلبة زرياب عليه وانتزاعه قصب السبق منهما). حقيقة كان هناك عدد آخر من المغنين, أمثال منصور المذكور, ولكن من الثابت أن هناك فراغاً حقيقياً في ميدان الفن الأصيل, سواء في الغناء أو الموسيقى, قبل وصول هذا العملاق الكبير إلى قرطبة.
مكانة زرياب في البلاط
بعد ثلاثة أيام من وصول زرياب إلى قرطبة أمر الأمير عبدالرحمن باستدعائه إلى البلاط ومجالسته وسماع ألحانه وأغانيه. وتؤكد المصادر أن الأمير أعجب بشخصية زرياب إعجاباً شديدا, إذ لم يكتشف فيه مغنياً بارعاً وموسيقارا ماهرا فحسب, وإنما وجد فيه (موسوعة) موسيقية كاملة, حيث كان (يحفظ عشرة آلاف مقطوعة من الأغاني بألحانها), كما اكتشف فيه شاعراً موهوباً وعالماً بالنجوم والجغرافيا والأدب والتاريخ والطبيعة. ومن المؤكد أن الأمير أفاد من زرياب في كل هذه الميادين, ويقول أحد المؤرخين إن الأمير(ترك كل ما كان يسمعه من غناء.. وقدَّمه على جميع المغنين), كما (ذاكره في أحوال الملوك وسير الخلفاء ونوادر العلماء, فحرك منه بحراً زَخَرَ عليه مدُّه فأعجب الأمير به وراقه ما أورده). وبناء على ذلك كله فقد حظي زرياب في البلاط الأموي بمكانة متميزة مادياً ومعنوياً واجتماعياً, فعلى الصعيد المادي فقد خصص له الأمير عبد الرحمن بعد ثلاثة أيام من وصوله إلى قرطبة ما يلي : 1- مرتباً شهرياً قدره مائتا دينار. 2- مبلغاً شهرياً قدره عشرين ديناراً لكل ولد من أولاده الأربعة الذين جاءوا معه إلى قرطبة آنذاك وهم: عبد الرحمن وجعفر وعبد الله ويحيى(3- مبلغاً سنوياً قدره ثلاثة آلاف دينار توزع له في الأعياد. 4- ثلاثمائة مد من الحبوب, بحيث يكون ثلثها قمحاً وثلثاها شعيراً 5- عدداً من الدور والمستغلات في قرطبة وبساتينها وعدداً من الضياع, والتي تُقَوّم وارداتها السنوية بأربعين ألف دينار. وقد كتبت هذه المنح والمرتبات كلها في وثيقة رسمية ممهورة بختم الأمير عبد الرحمن .
البحث منقول لتعم الفائده .
من لا تاريخ له.. لا حاضر ولا مستقبل له.
الحفاظ على التراث وحمايته .. من والواجبات المقدسه
على من يكتشف خطأ ما فى الأحداث أو التواريخ أن يخبرنا بها لنقتلها بحثا ونقاشا .. وكنا له من الشاكرين.
خالص تحياتى للجميع
أبو مروان
زرياب هو أبو الحسن علي بن نافع, واشتهر بلقب ( زرياب ). وهو اسم (الطير الأسود) ذي الصوت الرخيم. ويقال إنه لقب بذلك (من أجل سواد لونه وفصاحة لسانه وحلاوة شمائله). أما كلمة ( زرياب ) فهي فارسية الأصل وتعني (ماء الذهب). ولد زرياب في بغداد عام 161هـ/777م. ويبدو أن والده كان من الوافدين إلى بغداد, وكان زرياب من موالي الخليفة العباسي المهدي (ت169هـ/785م). تعلم زرياب فن الغناء والموسيقى في بغداد على يد إسحاق الموصلي (ت235هـ / 850م), الذي كان صاحب مدرسة للغناء والموسيقى في العاصمة العباسية, والموسيقار المفضل لدى الخليفة هارون الرشيد (ت193هـ/ 809م). وإذا كان زرياب قد أخذ في بداية حياته الفنية بعض ألحان أستاذه ووضعها في أغان جديدة له مع شيء من التغيير والتطوير, فإنه سرعان ما انطلق مستقلاً في ألحانه وأغانيه, بحيث لم تمض سنوات قليلة حتى أتقن (صناعة) الغناء والموسيقى اتقاناً فاق فيه أستاذه, لا سيما أن الكثير من عناصر النبوغ والإبداع كانت متوافرة في شخصيته.
في بلاط الرشيد
شاءت الظروف أن يطلب الخليفة هارون الرشيد من إسحاق الموصلي أن يرشح له مغنياً بارعاً, فذكر له تلميذه زرياب , وقال إنه قد اتقن الغناء والموسيقى على يديه, ويتوقع أن يكون له شأن كبير في مقبل الأيام. فطلب الرشيد منه أن يصطحبه معه إلى مجلسه. وبالفعل حضر زرياب برفقة أستاذه إلى مجلس الخليفة. ودار حوار بين الرشيد وزرياب حول بعض المسائل الفنية, ثم سمع ألحانه وغناءه, فأعجب به إعجابا شديداً, بل دهش بما انطوت عليه شخصيته من عقل ومنطق ومواهب فنية. ويحسن بنا أن ننقل مقتطفات من هذا الحوار كما ورد في أحد المصادر الأصلية (.. فلما كلمه الرشيد (أي كلّم زرياب ) أعرب عن نفسه بأحسن منطق وأوجز خطاب, وسأله عن معرفته بالغناء فقال زرياب (نعم أُحسن منه ما يُحسنه الناس, وأكثر ما أُحسنه لا يحسنونه, مما لا يحسن إلا عندك ولا يدَّخر إلا لك, فإن أذنت غنيتك مالم تسمعه أذن قبلك). فأمر الرشيد عندئذ بجلب عود أستاذه إسحاق, ولكن زرياب رفض العزف عليه وقال (لي عود نحته بيدي وأرهفته بإحكامي, ولا أرتضي غيره, وهو بالباب, فليأذن لي أمير المؤمنين في استدعائه, فأمر الرشيد بإدخاله إليه. فلما تأمل الرشيد عود زرياب , وكان شبيهاً بعود إسحاق, فقال له الرشيد: ما منعك أن تستعمل عود أستاذك? فقال زرياب : إن كان مولاي يرغب في غناء أستاذي غنيته بعوده, وإن كان يرغب في غنائي فلابد لي من عودي. فقال له الرشيد: ما أراهما إلا واحدا (أي أن العودين متشابهان). وهنا شرح زرياب للخليفة الفروق بين عوده وعود أستاذه, منها مثلاً أن وزن عوده يساوي ثلث وزن عود أستاذه, وأن بعض أوتار عوده من الحرير وبعضها الآخر من مصران شبل الأسد, مما يجعل ترانيم عوده أكثر صفاء ووضوحا, فتعجب الرشيد من وصف زرياب لعوده, ثم أمره بالغناء, فاندفع يغنيه قصيدة من تأليفه, يمدح فيها الخليفة, ومنها قوله:
يا أيها المَلِكُ الميمونُ طائرُه هارونُ راح إليك الناسُ وابتكروا
وبعد أن أتمَّ زرياب النوبة (طار الرشيد طرباً). ثم سأل الرشيد إسحاق الموصلي معاتبا:ً لماذا أخفى عليه هذا المغني ولم يقدمه له حتى الآن, فبرر إسحاق له ذلك بقوله إن زرياب نفسه كان قد أخفى تلك المواهب عنه. ثم طلب الرشيد من إسحاق أن يهتم بزرياب (حتى أفرغ له فإن لي فيه نظرا).
زرياب يهجر بغداد
يبدو أن إسحاق الموصلي ندم أشد الندم على اصطحاب تلميذه زرياب إلى مجلس الرشيد, لأنه شاهد بأم عينه مدى إعجابه به, وأدرك أنه إذا سطع نجم زرياب فإن ذلك سيكون على حساب منزلته ومستقبله, لا سيما أن ما قدمه زرياب من أغان وألحان في مجلس الخليفة فاق ما كان يقدمه إسحاق نفسه. ولهذا دبَّ الحسد - الذي هو داء كل العصور - في قلب الأستاذ تجاه تلميذه, وقرر التخلص منه بأي ثمن كان. واللافت للنظر أن إسحاق كان واضحاً مع زرياب , حيث شرح له أن الحسد بين أبناء الصنعة الواحدة شر يصعب تجنبه, وطلب منه أن يختار بين أمرين : إما أن يغادر إلى أي مكان في أرض الله الواسعة, وإما أن يقيم في بغداد على كره منه, وعليه, والحالة هذه, أن يتحمل مما سيلحق به من أذى بما في ذلك الاغتيال. وبعد أن سمع زرياب هذا التهديد الواضح من إسحاق وجد أنه من الحماقة أن يبقى في مدينة يتمتع فيها أستاذه بنفوذ لا طاقة له بمواجهته, ولهذا قرر مغادرة العراق إلى المغرب, وقد أعانه إسحاق نفسه على تنفيذ قراره هذا. وبذلك أفسد الحسد الفرصة على زرياب في بغداد الرشيد. وقد أكد هذه الحقائق كلها ما أورده المقري حين قالهاج به (أي بإسحاق) داء الحسد.. فخلا بزرياب وقال له: يا علي : إن الحسد أقدم الأدواء, والدنيا فتانة والشركة في الصنعة عداوة لا حيلة في حسمها, ولقد مكرت بي فيما انطويت عليه من إجادتك وعلو طبقتك, وقصدت منفعتك فإذا أنا قد أتيت نفسي من مأمنها بإدنائك, وعن قليل تسقط منزلتي وترتقي أنت فوقي, وهذا ما لا أصاحبك عليه.. فتخير في اثنتين لا بد لك منهما: إما أن تذهب عني في الأرض العريضة لا أسمع لك خبراً وإما أن تقيم على كرهي.. فخذ الآن حذرك مني, فلست والله أبقي عليك ولا ادع اغتيالك باذلاً في ذلك بدني ومالي.. فخرج زرياب لوقته وعلم قدرته على ما قال, واختار الفرار, فأعانه إسحاق على ذلك, فرحل عنه ومضى يبغي مغرب الشمس, واستراح قلب إسحاق منه).
الطريق إلى الأندلس
اتجه زرياب من العراق إلى المغرب, فنزل, بداية, في مدينة القيروان, عاصمة الأغالبة, حيث غنى لأميرهم زيادة الله الأول (816 -837 م). والواقع لا نملك معلومات كثيرة عن فترة إقامته في بلاط الأغالبة. ولكن حدث أن غضب الأمير من زرياب غضباً شديداً بعد أن غنى له شعراً لعنترة العبسي اعتبره إهانة له. فأمره أن يخرج من بلاده. وقال له, كما يذكر ابن عبد ربه في كتابه (العقد الفريد) : (إن وجدتك في شيء من بلدي بعد ثلاثة أيام جزيت عنقك). وبالفعل اضطر زرياب إلى مغادرة القيروان متجهاً إلى المغرب الأقصى عام 821 م بعد أن هدد بالقتل, كما سبق له أن غادر بغداد بعد أن هدد بالقتل أيضاً. وتؤكد المصادر أن زرياب بعث كتاباً إلى الأمير الأموي في الأندلس آنذاك وهو الحكم بن هشام (796-828 م), يخبره فيه عن مكانته في صناعة الغناء والموسيقى, ويُعرب له عن رغبته في القدوم إليه وأنه اختاره بين سائر الملوك والأمراء ليكون في خدمته. ومع أننا لا نعرف متى خاطب زرياب الحكم? وهل كان ذلك خلال إقامته في القيروان? أم بعد مغادرته لها? ولكن من المؤكد أن زرياب لم يجتز مضيق جبل طارق إلى الجزيرة الخضراء - الواقعة على الجانب الأندلسي - العام (821 م) إلا بعد أن تسلم كتاباً من الأمير الحكم يتضمن الترحيب به والرغبة في لقائه. وعندما وصل زرياب وأفراد عائلته إلى الجزيرة الخضراء كان في استقباله على أرضها وفد مرسل من قبل الحكم لاستقباله والترحيب به ومرافقته إلى بلاطه في قرطبة. وكان هذا الوفد برئاسة مغني يهودي اسمه منصور, ولكن شاءت الظروف أن يصل نبأ وفاة الحكم قبل أن يغادر زرياب الجزيرة الخضراء إلى قرطبة. وهنا تردد زرياب في متابعة رحلته, إذ وجد من الحكمة أن يعود إلى المغرب لأن الأمير الذي دعاه قد وافاه الأجل. وهنا تدخل منصور لإقناع زرياب بالتوجه إلى بلاط الأمير الجديد وهو عبد الرحمن بن الحكم, الذي عرف في التاريخ باسم عبد الرحمن الثاني أو الأوسط (822-852م), كما أبلغ منصور الأمير الجديد بتردد زرياب , لهذا وصل كتاب من الأمير عبد الرحمن إلى الجزيرة الخضراء يتضمن دعوة زرياب إلى قرطبة, ويعرب له فيه عن شوقه وتطلعه إلى لقائه في بلاطه. كما كتب الأمير نفسه إلى ولاته على البلاد التي سيمر بها زرياب بأن يحسنوا استقباله ويقدموا له كل العون والمساعدة حتى وصوله إلى قرطبة. وإضافة إلى ذلك كله أمر عبد الرحمن أحد كبار رجال التشريفات في قصره بأن يكون في استقبال زرياب قبل وصوله إلى العاصمة. ودخل زرياب وأهله قرطبة في إحدى الليالي من عام 822 م, وتم إنزاله في دار من أحسن دورها وحمل إليها جميع ما يمكن أن يحتاج إليه.
ربما كان ترحيب الأميرين الأمويين بزرياب, الحكم وابنه عبد الرحمن, والإلحاح الشديد عليه للقدوم إلى الأندلس, يدل على أن شهرته الفنية كانت قد سبقته إلى تلك البلاد, كما يعكس رغبة بني أمية في قرطبة في أن يكون بينهم فنان بهذه الكفاءة لمنافسة إسحاق الموصلي فنان بني العباس في بغداد. ويكشف هذا الترحيب, من ناحية أخرى, خلو البلاط في قرطبة آنذاك من مغنين وموسيقيين على درجة عالية من الكفاءة والمقدرة, والدليل على ذلك أن المصادر تشير إلى أن أول من دخل الأندلس من المغنين هما: علون وزرقون, وكان ذلك في أيام الحكم بن هشام نفسه (796 -822 م), ولكن بمجرد وصول زرياب تخلى الأمير عبد الرحمن عنهما (لغلبة زرياب عليه وانتزاعه قصب السبق منهما). حقيقة كان هناك عدد آخر من المغنين, أمثال منصور المذكور, ولكن من الثابت أن هناك فراغاً حقيقياً في ميدان الفن الأصيل, سواء في الغناء أو الموسيقى, قبل وصول هذا العملاق الكبير إلى قرطبة.
مكانة زرياب في البلاط
بعد ثلاثة أيام من وصول زرياب إلى قرطبة أمر الأمير عبدالرحمن باستدعائه إلى البلاط ومجالسته وسماع ألحانه وأغانيه. وتؤكد المصادر أن الأمير أعجب بشخصية زرياب إعجاباً شديدا, إذ لم يكتشف فيه مغنياً بارعاً وموسيقارا ماهرا فحسب, وإنما وجد فيه (موسوعة) موسيقية كاملة, حيث كان (يحفظ عشرة آلاف مقطوعة من الأغاني بألحانها), كما اكتشف فيه شاعراً موهوباً وعالماً بالنجوم والجغرافيا والأدب والتاريخ والطبيعة. ومن المؤكد أن الأمير أفاد من زرياب في كل هذه الميادين, ويقول أحد المؤرخين إن الأمير(ترك كل ما كان يسمعه من غناء.. وقدَّمه على جميع المغنين), كما (ذاكره في أحوال الملوك وسير الخلفاء ونوادر العلماء, فحرك منه بحراً زَخَرَ عليه مدُّه فأعجب الأمير به وراقه ما أورده). وبناء على ذلك كله فقد حظي زرياب في البلاط الأموي بمكانة متميزة مادياً ومعنوياً واجتماعياً, فعلى الصعيد المادي فقد خصص له الأمير عبد الرحمن بعد ثلاثة أيام من وصوله إلى قرطبة ما يلي : 1- مرتباً شهرياً قدره مائتا دينار. 2- مبلغاً شهرياً قدره عشرين ديناراً لكل ولد من أولاده الأربعة الذين جاءوا معه إلى قرطبة آنذاك وهم: عبد الرحمن وجعفر وعبد الله ويحيى(3- مبلغاً سنوياً قدره ثلاثة آلاف دينار توزع له في الأعياد. 4- ثلاثمائة مد من الحبوب, بحيث يكون ثلثها قمحاً وثلثاها شعيراً 5- عدداً من الدور والمستغلات في قرطبة وبساتينها وعدداً من الضياع, والتي تُقَوّم وارداتها السنوية بأربعين ألف دينار. وقد كتبت هذه المنح والمرتبات كلها في وثيقة رسمية ممهورة بختم الأمير عبد الرحمن .
البحث منقول لتعم الفائده .
من لا تاريخ له.. لا حاضر ولا مستقبل له.
الحفاظ على التراث وحمايته .. من والواجبات المقدسه
على من يكتشف خطأ ما فى الأحداث أو التواريخ أن يخبرنا بها لنقتلها بحثا ونقاشا .. وكنا له من الشاكرين.
خالص تحياتى للجميع
أبو مروان