حكم الديمقراطية في الاسلام
١ حكم الديمقراطية في الاسلام:
o ١.١ موقف الإسلام من الأساس الفلسفي الديمقراطي :
o ١.٢ علاقة الديمقراطية بمبدأ فصل الدين عن الدولة:
o ١.٣ الإسلام والأكثرية:
حكم الديمقراطية في الاسلام:
موقف الإسلام من الأساس الفلسفي الديمقراطي :
سبق أن أوضحنا أن أساس الديمقراطية سيادة الشعب، وأن هذا المبدأ يقوم على مبدأ فلسفي وهو العقد الاجتماعي بين السلطة والأمة، وهذه الفكرة الفلسفية هي فكرة فرضية ليس لها نصيب من الواقع، وتقول بأن الحق يسبق في وجوده السلطة، والأمة تنازلت بمقتضى هذا العقد عن بعض حقوقها بنسب متساوية بين أفرادها للسلطة في سبيل قيام هذه الأخيرة بحماية حقوق الأمة صاحبة السيادة ورعايتها من كل اعتداء، لذا؛ فإنهم يعبرون عن هذه الحقوق الفردية بأنها حقوق طبيعية لصيقة بالإنسان، فهل هذه الفكرة لها أساس في الإسلام ؟
بالإضافة إلى أن هذه الفكرة افتراضية لا أساس لها من الحقيقة والواقع، فإن الإسلام لا يقرّ بها، فالسلطة موجودة بوجود الإنسان، إذ يقول الله سبحانه وتعالى للملائكة: ] وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً[ (20) ، فالاستخلاف يقتضي السلطة، وأمر الله ونهيه للإنسان لينير له الطريق التي رافقت وجـوده في جنـة الخلد وبعد أن هبط إلى الأرض إذ قال الله تعالى: ]وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ[ (21) فقد تضمنت الآية الأمر والنهي، وبعد أن خالف الأمر والنهي أسكنه الله إلى الأرض فقال: ] قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [ (22)، فالأمر والنهي أي الاختصاص الإلهي التشريعي أبدي أزلي، والإنسان مأمور باتباعه وعدم النكول عنـه، بل إن الإعراض عن هدى الله غاية في الإجرام! يقول سبحانه: ] وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ [ (23)، إجرام في حق الأمة أفراداً أو جماعات، سواء كان الإعراض بقرار الأغلبية أم الأقلية؛ أي إن تعطيل شرع الله تحت أية دعاوى أو مسميات هو إجرام في حق الشرع والأمة، يستوجب العقاب الشديد يقول سبحانه : ] وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [ (24) .
علاقة الديمقراطية بمبدأ فصل الدين عن الدولة:
هذه النظرة الفلسفية قائمة أصلاً على مبدأ فصل الدين عن الدولة، بعد ثورة رجال الفكر في الغرب، بعد الثورة الفرنسية على رجال الكنيسة، بعدما ضاقت الشعوب من تصرفاتهم التي لم تترك شيئاً إلا تدخلت فيه، فكانت الثورة لعزلهم وقصر نشاطهم على الكنيسة، وحرمانهم من تنظيم الحياة المدنية، وجعله أو قصره على الشعب وحده صاحب السيادة، ليختار النظام الذي يراه ، والقوانين التي يرغب في الخضوع لها.
فهل الإسلام يقرّ هذه الفكرة التي قامت عليها الديمقراطية ونظرياتها الفلسفية، هل الإسلام مجرد عقيدة لا علاقة له بتنظيم شؤون الحياة الدنيا بين الأفراد والجماعات ؟
الإسلام جاء شريعة عامة للناس جميعاً عقيدة وشريعة، تشمل العقيدة وما يتعلق بها من أحكام، وشريعة عامة تنظم جميع مناحي الحياة، ما تعلق منها بالجوانب القانونيـة والعقائدية والأخلاق والشعائر، فالإسلام كلٌ متكامل، لا يقبل التجزئة، عقيدة وشريعة، أما الديمقراطية فهي قائمة على مبدأ رفض الشريعة من أن يكون لها يد في تنظيم الحياة المدنية، وقصر دورها على الأمور المتعلقة بالعقيدة والشعائر والأخلاق، وبكلمة موجزة سلب الشريعة الاختصاص التشريعي والتنفيذي والقضائي، فلا يستمد أياً من هذه السلطات الثلاث من الشريعة، أو يكون له علاقة بها، فهل هذا يعرفه الإسلام أو يقره؟
إن الحق سبحانه وتعالى يجيب على ذلك بقوله : ]يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَاب [ (25)، فهذه الآية تضمنت بيان السلطات الثلاث فقول الله إنا جعلناك خليفة ـ هذه السلطة التنفيذية الخليفة رأسها، فاحكم ـ هذه السلطة القضائية ـ بالحق ـ وهذا القانون المطبق أي السلطة التشريعية.
ويقول سبحانه وتعالى لنبيه r في محكم التنزيل: ] وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ [ (26) ويقول سبحانه : ] وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْك [ (27)تحت أية مسميات أو مبررات، ويقول: ] إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ [ (28) تحذير من الإعراض عن بعض ما أنزل الله وإن قل.
وجعل سبحانه بعدما أوضح هذه السلطات الأساس التي تنص الديمقراطية على أنها ملك للأمة، بين أن الاحتكام إلى شرع الدين من ركائز الإيمان، فقال سبحانه : ] فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ [ (29).
الإسلام والأكثرية:
تقوم الديمقراطية كما أوضحنا على مبدأ (سيادة الشعب) وتمثله الأغلبية؛ أي أن أغلبية الشعب أو نوابه هم وحدهم الذين يقررون مصلحة الجماعـة وما هو مفسدة، فما قضت به الأغلبية بأنه مصلحة يجب مراعاته، وما قضـت أنه مفسدة يجـب تركه، معنى ذلك أن العقل المرجع في تحديد ما هو مصلحة وما هو مفسدة، فإذا قررت الأغلبية على أنه لا مفسدة في الزنا إلا إذا وقع بغير الرضا، أو أن شرب الخمر لا مفسدة فيه إلا إذا تجاوز حداً معيناً، أو تمّ تعاطيه في ظروف معينة، أو أن الربا نظام اقتصادي يحقق المصالح العامة والخاصة على السواء، ولا مفسدة فيه، أو أن تقرير عقوبة إعدام القاتل عمداً مفسدة يجب إلغاؤها واستبدالها بعقوبة تحددها الأغلبية، وغير ذلك من الأمور التي ورد الشرع بالنهي عنها واعتبارها مفسدة، فهل تعدّ بناء على قرار الأغلبية أنها مصلحة ولا مفسدة فيها، أو أنها مفسدة ولا مصلحة فيها؟! أو إذا قررت الأغلبية فصل الدِّين عن الدولة، وأن الدين لا علاقة له بتنظيم علاقات الأفراد، وأن المصلحة كل المصلحة ترك تنظيم الحياة المدنية للأغلبية، وأن تنظيم الشرع لها مفسدة يجب تركه، فهل يعد تطبيق الأحكام الشرعية بقرار الأغلبية مفسدة؟!
إن مما لا خلاف فيه بين العلماء أن الحاكم هو الله سبحانه وتعالى، وأنه لا حكم إلا لله ] إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [ (30)، وأنه لا بيان بعد بيان الشرع، ولا معقب على بيان الشرع، فما قرر الشرع أنه مصلحة، فهو المصلحة، وما قرر أنه مفسدة، فهو المفسدة، ولا مجال للعقل بعد بيان الشرع، وإلا جعلنا للعقل التعقيب على الشرع، وهذا ما لا يصح، فإن ما أمر الله به فهو حسن يُمدح فاعله، ويُثاب على فعله، وما نهى الله عنه فهو قبيح، يُذم فاعله ويأثم بفعله (31) .
فإذا قرر الشرع أن الربا مفسدة يجب اجتنابه ليس للأقلية أو الأكثرية أن تعقب على الشرع، فتقول أنه مصلحة يجب اتباعه، وإذا قرر الشرع أن إقامة حدّ القِصاص مصلحة وحياة للناس جميعاً، ليس للأقليّة أو الأكثرية أن تعقب على الشرع وتقرر أن حد القصاص مفسدة يجب إلغاؤه، وهكذا بقية الأوامر والنواهي التي ورد الشرع بها.
أما الأكثرية والأقلية فلا عبرة بقولها ولا بقرارها إلا بمدى موافقتها لأحكام الشرع ومبادئه، فإذا أحدثت ما ليس في دين الله، فهو ردّ، "مَن أحدث مِن أمرنا ما ليس فيه فهو ردّ"(32) سواء كان ذلك من أكثرية أو أقلية.