دروس نظرية في سلالم الموسيقى العربية



مقدمة
أرى أن هذه المقدمة ضرورية، لما تحتويه من عناصر الإثارة والاندفاع التي قادتني إلى الإمعان في دراسة هذا الموضوع، وتسجيل خبرات تدريسي لمادتيّ نظريات وصولفيج الموسيقى العربية، وانعكاسات مناقشات الطلبة الواقعية على هذا الموضوع لأكثر من عشرين سنة، وفي أكثر من بلد عربي. وقد جاء هذا البحث نظراً لأهمية السلم الموسيقي الذي يُعدّ العنصر الأساسي الذي يُبنى عليه أي تأليف موسيقي، خصوصاً إذا أراد المؤلف أن يحوي عمله هوية أمته وخصوصية موسيقاها المشتقة من كيانها والمنبثقة من لغتها.
تعاني موسيقانا العربية، ونظرياتها خاصةً، من تخبّط في تعقيدات متنوعة، وخلط في المفردات ومفاهيمها، إضافةً إلى مجموعة من الأخطاء التي شاع استخدامها بين الموسيقيين. كل هذه الإشكالات يجدها طالب الموسيقى أمامه حائلاً صلداً يفصل بينه وبين تعلمه الموسيقى، كما يرى أن الموسيقى بحر مظلم يصعب على الفرد سبر غوره. لذا يعزف الكثيرون -ممن يودون تعلم الموسيقى العربية- عن دراستها، وتتجه أعداد كبيرة من الشباب إلى تعلم الموسيقى الغربية. أن هذه الحالة الخطيرة هي أحد أسباب قلة المتخصصين بالموسيقى العربية والعازفين على مختلف آلاتها، مما أدى أيضاً إلى قلة الباحثين والمؤلفين المبدعين فيها.
إذاً لابد من استقطاب أعداد كبيرة من الشباب لدراسة الموسيقى بشكل عام، ثم توجيههم للاهتمام بالموسيقى العربية عزفاً وغناءً وبحثاً، ليس فقط ليسدوا حاجة المجتمعات العربية لهذه المهن، بل ليبقى عدد منهم فائضاً عن حاجة العمالة اليومية، فيتجها بذلك لتطوير إمكاناتهم أكثر فأكثر، فيصل الموهوبون منهم إلى إبداعات متميزة تواكب تطور مجتمعاتنا العربية وتضيف شيئاً إلى التراكم الثقافي للبشرية.
طبعاً... لا أدّعي أن هذا هو السبب الوحيد الذي أوصلنا إلى الواقع الذي تعيشه موسيقانا العربية، ولكنه سبب أساسي لابد من العمل على تجاوزه بتبسيط نظريات موسيقانا العربية وتنقيتها وتوحيدها، ووضع أسس علمية وقواعد ثابتة لا تقبل التأويل والازدواجية، وكذلك فصل السلالم الموسيقية، بوصفها درجات ثابتة، عن المقامية التي يدخل فيها أسلوب التعامل مع تلك السلالم، والدرجات العرضية المستخدمة عند التأليف الموسيقي أو الغنائي، وتخليصها من التعقيدات المربكة والأخطاء الشائعة، دون الابتعاد عن هويتها وخصوصيتها السمعية.
بذلك نضع أرجلنا على بداية الطريق لنهضة موسيقية عربية شاملة تتخطى نتاجاتها حدود وطننا العربي الكبير.

لمحة تاريخية
عرّف أنطونين شبلدا في كتابه "مقدمة في علم الصوت" باغ 1958، السلم الموسيقي بأنه مجموعة من الأصوات المرتبة بصورة متدرجة من حيث الارتفاع وفق مفهوم أو قانون معين. إن مراجعة أوليّة لتاريخ تنظيم السلالم الموسيقية يبين لنا أن الواقع الموسيقي واقع أوّليّ، ينبثق منه ثانوياً تنظيم للسلم الموسيقي له علاقة بالوجود الأول، وهذا هو موقف علم الإثنوموزيكولوجيا، رغم أن هذا العلم لا ينفي التأثير العكسي للواقع النظري على الإنتاج الموسيقي، أي لا ينفي تأثير التنظيم السلّمي النظري على المعيار السائد في العزف والغناء. وبهذا المعنى يعبِّر ماريوس شنايدر عن مفهوم التنظيم السلّمي، إذ يقول: (إن أي تنظيم سلّمي مهما كان بدائياً لا يمكن أن يكون أولياً، بل إن الأولوية تعود للألحان، وخصوصاً إذا ما كانت أصواتها مستديمة. وهذه على مرور الزمن تكوّن واقعاً نغمياً معيناً يكون ذا فعالية تنظيمية. إن أي لحن بدائي لا يتأتى من اختيار واع لمجموعة من الأصوات، أو لاختيار تنظيم سلّمي معين. بل إن تركيب اللحن هو الذي يقرر نوع التنظيم السلّمي ويعطي صورة عنه). هذه هي الطريقة الأولى في تركيب السلم الموسيقي، وهي الطريقة البنائية المسبقة. ومع تطور الفكر البشري استخدمت الطريقة الثانية، والتي تعتمد الاستقراء والتجربة حسب تنظيم سلّمي معدّ نظرياً مسبقاً، وهي الطريقة المستخدمة في العصور الحديثة. وتشير المصادر التاريخية إلى أن النظريات العربية في الموسيقى -فيما يخص التنظيم السلّمي- كانت تستند على الطريقة الأولى، أي الطريقة البنائية المسبقة للتنظيم السلّمي النظري. أما المخطوطات المتبقية فتشير إلى نهج الذهنية العربية خلال فترة ازدهارها حتى بداية القرن العشرين، ذلك النهج الإستنتاجي الذي كان يبني السلم مسبقاً ثم يطبقه على الموسيقى.
وعندما نتكلم عن درجات السلم الموسيقي، تجدر الإشارة إلى أن المقصود بالدرجة الصوتية Pitch كصفة ذاتية، هو الارتباط الوثيق بصفات الصوت الفيزيائية (الذبذبة). وفي المرحلة الكلاسيكية لعلم الصوت كانت درجة الصوت المُثلى هي تلك التي لها امتداد محدد، ساكن، متموج بانتظام. إلا أن فترة الربع قرن الأخير من تطور العلوم سببت تغييراً في موقف علم الصوت اتجاه النهج الكلاسيكي الجامد، لتحل محله حقيقة علمية لا يمكن التغافل عنها، وهي ضرورة إدراك الصوت، ديناميكياً من خلال حركته. يقول فريتز وينكل: (إن الخطأ الكامن في نظريات الصوت الكلاسيكية هي أنها كانت قد وضعت أساساً نظرياً للذبذبات الساكنة، بينما هذه الذبذبات لا تحمل أهمية موسيقية، فالموسيقى تؤلف مع الكلمة مجموعة متتالية من الانتقالات اللاموجيّة، أو على الأقل الأشبه بالموجية). وهذا يمكن أن يعني أيضاً: أن أهمية الصوت الموسيقي وظيفياً أو جمالياً تكمن في مضمونه وفيما يحيط به من أصوات أخرى، كلها في حالتها الحركية. ورغم أن الصوت المستخرج في المختبر استخراجاً مثالياً من الناحية الفيزيائية أو الرياضية، لا يمكن أن يعكس أي قيمة جمالية، إلا أننا سنعتمد ذلك التحديد الفيزيائي للذبذبات عند تعرّضنا للدرجات الصوتية المتتابعة للسلم الموسيقي، لأن دراسة ذلك خارجة عن موضوع بحثنا هنا.
كذلك كان علماء الموسيقى الهرب قد أبدوا اهتماماً كبيراً بدراسة السلالم العربية المرتبطة بالموسيقى الكلاسيكية، وكتبوا كثيراً عن الموضوع دون أن يعيروا الأنظمة السلّمية المخفية اهتماماً. وسنستعرض الآن تاريخ مراحل تكوين السلم الموسيقي العربي وتطوره وما طرأ على تركيبه من التغيير والتبديل والإضافة والتحسين على توالي الأيام والعصور.
عجز الباحثون بتاريخ السلّم الموسيقى العربي عن الوصول إلى حقيقة أصل هذا السلّم أو شكله القديم. ومهما كان هذا السلم المجهول الأصل، فإن هؤلاء الباحثين في أحوال الموسيقى العربية وسلّمها وتاريخها أمثال: لاند، بوريل، هيجوريامان، فارمر، الحفني، ديرلانجه، شلفون وغيرهم، قد توصلوا إلى استنتاج أجمعوا فيه على القول بأنه لا يوجد مؤلفات خاصة للموسيقى العربية في جميع أطوارها منذ القدم حتى يومنا هذا، تنبئنا عن أصلها وتاريخها وطبيعتها وكيف وجدت وتطورت، إلا ما تناقله الخلف عن السلف من الأغاني والألحان بواسطة النقل بالسماع.
يقول الدكتور هنري فارمر مؤلف كتاب "مصادر الموسيقى العربية" في مستهل كتابه: يجب ألا يرجع المرء في هذا البحث إلى الرسائل المقصورة على الموسيقى وحدها، كما هو الحال في ميادين البحوث الأخرى، وإنما ينبغي اختبار جميع كتب التاريخ والتراجم والشريعة والفقه والآداب والموسوعات اختباراً دقيقاً، ولهذا السبب أدخل في هذا البحث عدد كبير من الكتب في الميادين السابقة من النشاط الفكري. فالتاريخ والتراجم ييسران لنا معرفة كيفية تطور الفن في كثير من مظاهره، وكذلك تعطينا الآداب، وخاصة في المجاميع، نفس الخدمة، على حين تنفعنا الكتب الفقهية والدينية كثيراً في وصف الآلات الموسيقية وتاريخ استعمالها. فالمناقشات التي لا تنتهي حول تحليل سماع الموسيقى اضطرت محرميها إلى وصف الآلات المحرمة ليعرفها المؤمنون فيتجنبوا إثم الاستماع إليها. ولمّا كان بعض هذه الآلات قد أُهمل استعماله منذ ذلك الحين، كان من المهم أن نعرف ماهيتها، ولو اضطررنا للرجوع إلى هؤلاء العلماء الخصوم إلى حد ما.
وتحتل موسيقى عرب القرون الوسطى في تاريخ هذا الفن، موضعاً بين الفن البيزنطي، وفن عصر النهضة الحديثة في أوروبا الغربية. ونستطيع أن نلمح في هذا الفن العربي التطور المنطقي للموسيقى أحادية الجانب Homophony عند الشعوب السامية القديمة، والإغريق والبيزنطيين، والتي ربما وصلت إلى أسمى صور التنظيم على أيدي العرب. وهناك مسألة أخرى، فالاهتمام المتزايد بدراسة الموسيقى المقارَنة في البلدان الأخرى، جعل من الواجب علينا أن نعرف كل ما يمكن معرفته عن ذلك الفن عند العرب في العصور الوسطى، وخاصةً حين يتذكر المرء الدور الهام الذي قام به هذا الشعب في تطور المدنية. ولعل يونس الكاتب، تلميذ ابن محرز، هو أول كاتب معروف في تاريخ الموسيقى العربية. وابن محرز وابن مسجح، المتوفيان في بداية القرن الثامن الميلادي، هما اللذان أوجدا علم الموسيقى العربية، وللأسف الشديد، فُقدت جميع رسائلهم، ولم يصل إلينا غير رسالة واحدة هي رسالة ابن المنجم. وهذه الرسالة مع إشارات أبي الفرج الأصفهاني في كتاب "الأغاني" الكبير، هما المصدر الوحيد لمعلوماتنا عن نظرية المدرسة العربية القديمة. أما الأغاني القديمة والألحان التي كان العرب يتداولونها وتُنقل بالسماع من عصر إلى عصر ومن جيل إلى جيل، فبالرغم من أن طبيعة النقل من مغنٍ إلى آخر على مدى الأزمنة والأيام تجعل هذه الأغاني المنقولة عُرضة للتحوير والتعديل، فلا يمكن أن تصل إلى مسامعنا سالمة كما كانت في الأصل دون أن يعتريها الكثير من التغيير، إلا أنه مهما كان هذا التناقل محوَّراً فإنه لا يخلو من بعض الفوائد والإشارات التي تهدينا على الأقل إلى ما كانت عليه هذه الأغاني من أساليب وتركيب، كما تدلنا على أنموذج السلم الموسيقي العربي القديم الموروث. ولا يجب أن نقلل من قيمة هذه الألحان الشعبية الموروثة الشائعة في جميع الأقطار العربية تقريباً، فهي المصدر الصحيح والوحيد المنظور الذي لولاه لما كنّا عرفنا شيئاً عن ماضي موسيقانا وسلمها وطراز ألحانها. على الرغم من أن هذا السلم الذي عرفناه عن طريقها يتعرض في بعض البلدان العربية لقليل من الفروق في بعض أجزائه القياسية الصوتية، بحكم طبيعة الانتقال والاقتباس والتأثر باللهجة والذوق.
وفي عصر الدولة العباسية –ذلك العصر الذهبي للموسيقى العربية- الذي جعله المؤرخون بدء الموسيقى العربية، أخذ العرب من موسيقى الفرس واليونان، ومزجوا ما أخذوه بموسيقاهم وطبعوه بطابعهم الخاص، حتى تبلور وبات كالأصل، وصار هذا الأسلوب الجديد نوعاً خاصاً بهم ويدل عليهم. وكان أن رافق هذا العصر الذهبي عصر آخر هو عصر الأندلس الذي ساعد على ازدهار الموسيقى العربية ورقيها في شرق الوطن العربي ومغربه. ورغم ذلك، ظلّ السلّم العربي غامضاً، وجميع من ألّفوا في الموسيقى العربية لم يخبرونا عن السلم الموسيقي. ولقد كان الفارابي أوّل من عرّف الأمة العربية بسلمها، وشرح الآلات الموسيقية العربية التي كانت متداولة في زمانه، كالعود والطنبور البغدادي والطنبور الخراساني والرباب. وشرح السلّم الموسيقي العربي القديم الذي كان مستعملاً في زمن الجاهلية. واعتمد الفارابي في شرحه للسلّم الموسيقي على الأجناس، أو ما يسميه بالتجنيس فقال:
فالتجنيس الأول إذاً: عودة، وعودة، ونصف عودة.



1 1 1/2
|____________________|____________________|_______ ___|
عودة عودة نصف عودة
24 24 12

وبُعد العودة هو البُعد الطنيني او المسافة الصوتية "التون". أي أن الجنس هو نفسه جنس العجم المعروف الآن. ويقول عنه الفارابي أنه جنس مشهور ومألوف جداً. ويضيف الفارابي: (ولمّا كان وسطى زلزل فوق البنصر بقريب من مقدار ربع عودة صار التجنيس الثاني: عودة، وثلاثة أرباع عودة، وثلاثة أرباع عودة).



1 3/4 3/4
|____________________|_______________|____________ ___|
عودة ثلاثة أرباع عودة ثلاثة أرباع عودة
24 18 18


أي تون وثلاثة أرباع التون، وثلاثة أرباع التون، وهو ما ينطبق على جنس الراست الحالي، وهكذا يذكر الفارابي ثمانية أجناس مفصّلة كما سبق.
ثم جاء صفي الدين عبد المؤمن البغدادي، بعد الفارابي بمائتي سنة تقريباً، فشرح في كتابه "الأدوار" ثمانية وأربعين سلماً، لثلاثين منها فاصل يقع في آخر كل منها. أي بين الصوت السابع والثامن من كل ديوان، وسبعة منها يقع الفاصل بين صوتيها السابع والثامن بنسبة بُعد صغير (نصف تون). وأحد عشر ديواناً آخر. ولكن هل كانت كلها مستخدمة؟... لا يمكن إثبات ذلك أو نفيه.
كانت حسابات الفارابي ومن بعده ابن سينا ثم الأرموي، تعتمد تعتمد على حساب "الكوما". (الكوما هي بُعد طنيني صغير جداً يساوي 9/1 من البعد الطنيني الكامل). وابتداءً من القرن الخامس عشر وما بعده، إبان السيطرة العثمانية على المنطقة العربية، تأثر الموسيقيون العرب بالموسيقى التركية، وخاصةً من درس منهم في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين فيمعهد الموسيقى الرسمي في إسطنبول "دار الألحان التركية"، فأدخلوا سلالم موسيقية جديدة على الموسيقى العربية ودمجوها بالأجناس العربية مثل السوزدلار والعرضبار والحجاز كار والشد عربان... وهكذا يوجد بين أيدينا الآن مجموعة من السلالم الموسيقية المستخدمة في الموسيقى العربية، بعضها عربي أصيل وبعضها الآخر فارسي أو تركي، اعتادت الأذن العربية سماعه من خلال مؤلفات الموسيقيين العرب الذين تأثروا بالموسيقى الفارسية أو التركية.

المؤتمر الموسيقي بين مؤتمري القاهرة 1932 و 1992.
دعا المخلصون للموسيقى العربية، العاملون على تنميتها وتطويرها، لعقد المؤتمر الأول للموسيقى العربية في القاهرة عام 1932. وقد حضر المؤتمر موسيقيون ومغنون ومهتمون بالموسيقى من البلدان العربية كافةً. كما دعي إليه أيضاً علماء وباحثون موسيقيون من بلدان أجنبية أخرى. ورافق المؤتمر حفلات فنية متميزة. حضر الموسيقيون وكلهم أمل في أن يساهم المؤتمر بتحقيق حلم الكثيرين.... أن يخلِّص الموسيقى العربية من الشوائب والتعقيدات.... أن يبعد عنها ما أُدخل عليها من موسيقى فارسية وتركية، وما رافقهما من مفردات من اللغتين.... أن يضعوا المناهج العامة والتفصيلية للآلات الموسيقية وللمعاهد العربية ويساعدوا في وضع الخطط الواقعية للنهوض بتلك المعاهد، لزيادة إنتاج الموسيقيين كمّاً ونوعاً.... أن يوحدوا سلالم الموسيقى العربية ونظرياتها ويبسطوا تعليمها.... أن يدعموا المؤلفين الموسيقيين أينما كانوا في الوطن العربي، ويحثوهم على الإبداع وخلق الشيء الجديد.... أن يدعموا البحث العلمي في الموسيقى العربية العملية لا تاريخياً فقط.... أن يشجعوا التأليف الآلي ويسهموا في وضع الدراسات التطبيقية لإغناء الموسيقى العربية بالتوزيع الهارموني.... أن.... أن.... أن.... الخ.
وانعقد المؤتمر، وكان تظاهرة موسيقية عربية كبيرة، احتدمت فيها النقاشات. وليس لي أن أستعرض هنا ما دار في المؤتمر، فذلك خارج عن موضوعي لكن الأهم هو ما بعد المؤتمر. ستون عاماً مرت على المؤتمر الأول، والموسيقى العربية تراوح بمكانها. فلم يتحقق شيء من أمنيات المخلصين. بقيت الأسماء الكثيرة لأرباع الدرجات الصوتية، والمليئة بالمفردات التركية والفارسية شائعةً بين الوسط الموسيقي وفي المعاهد والمطبوعات الموسيقية.... بقيت التسميات غير العلمية لبعض الأجناس، والسلالم الموسيقية متداولة بين الموسيقيين وحتى الدارسين منهم.... بقيت الصيغ الموسيقية والغنائية كما كانت قبل المؤتمر دون تجيد أو إبداع.... حتى القرارات التي تُتخذ في هذا البلد العربي أو ذلك لتجاوز الأخطاء الشائعة لم يجرِ التأكيد والحزم على تطبيقها لتكون هي القاعدة. كما ورد في قرارات المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب بالجمهورية العربية المتحدة بجلسته في سنة 1958 (تسمى الدرجات الصوتية للسلم العربي بأسماء درجات السلم الغربي مضافاً إليها علامات التحويل العربية دون أسمائها الشرقية القديمة. فيقال: "مي نصف بيمول" بدلاً من "السيكاه"، و"فا" بدلاً من "الجهاركاه".... وهكذا، وذلك للتبسيط). وورد في قرار آخر للجنة المقامات المتفرعة من لجان بحث الموسيقى العربية: (أن تكون دراسة المقامات في الموسيقى العربية بالمناهج الدراسية في حدود منطقة الأوكتاف الواحد، وفي حالة الصعود دون الهبوط، وذلك للتبسيط). وفي قرار آخر: (حذف أسماء المقامات المشابهة، والاكتفاء بالمقام الأساسي ذي الفصيلة الخاصة، واعتبار المقامات المتشابهة الأخرى مقامات مصورة تسمى باسم المقام الأصلي، وذلك تفادياً لتعدد الأسماء التي لا مبرر لها، مادامت أبعاد هذه المقامات المتشابهة واحدة. كما أن هناك قراراً من مؤتمر الموسيقى الأول بالقاهرة باعتماد تدوين أصوات العود على مفتاح فا.
كل ذلك لم يُطبّق بعد المؤتمر. وأُبعد الدارسون لتكنيك الآلات الموسيقية الأوركسترالية عن ممارسة الموسيقى العربية بحجة تخصصهم بالموسيقى الأوروبية. من أين نأتي بالموسيقيين المتخصصين المتفرغين للبحث العلمي في الموسيقى العربية وتطورها، ونحن ما زلنا بحاجة ملحّة إلى أعداد كبيرة من العازفين؟ كيف يمكننا إنتاج موسيقيين دارسين وبأعداد كبيرة ومعاهدنا الموسيقية قليلة جداً؟ وبالمناسبة، فقد جاء في مداخلة الدكتور شاكر مصطفى، التي ألقاها في ندوة "الثقافة العربية والنظام العالمي الجديد"، والتي كانت ضمن مهرجان أصيلة في المغرب في آب 1992، وضمن استعراضه للجوع الثقافي الذي يعيشه الشعب العربي، أن عدد المعاهد الموسيقية في الوطن العربي حالياً ثلاثة وعشرون معهداً، أي بمعدل معهد واحد لكل تسعة ملايين شخص تقريباً. فهل هذا كافٍ لإعداد ما تحتاجه مجتمعاتنا العربية من موسيقيين عاملين؟ إن على عاتق المجمّع العربي للموسيقى، وهو المؤسسة التابعة لجامعة الدول العربية، مهمة كبيرة بهذا الصدد.... مهمة توحيد نظريات الموسيقى العربية ووضع مناهج عامة للمعاهد وتفصيلية خاصة بميتودات (أي بأساليب تدريس) الآلات الموسيقية المختلفة مع الأخذ بالحسبان بعض خصوصيات كل بلد عربي لموسيقاه الشعبية، التي يجب أن تُدرس في المعاهد، والمساعدة في وضع أساليب التدريس العلمية ليلك الموسيقى، وحث البلدان العربية على فتح معاهد موسيقية جديدة، وفي أنحاء مختلفة من بلدانها، ووضع المسابقات السنوية المختلفة لخلق التنافس بين الموسيقيين ودفعهم للزيادة في الإبداع. وجعل متابعة تنفيذ القرارات والتوصيات مادة أساسية في المؤتمرات التي تُعقد على مستوى البلد الواحد أو المجمّع العربي للموسيقى. إن هذه الخطوات كفيلة بالنهوض الشامل للموسيقى العربية ومواكبتها ركب التطور والتقدم الحضاري، لتساهم في رفد التراكم الثقافي للبشرية بإبداعات عربية جديدة.

الآفاق وإمكان تجاوز الإشكالات
القاعدة الأولى: المصطلحات:
1. النغمة والمقام والصوت والدرجة مفردات لها معنى واحد.
2. البعد الكامل يعني المسافة الصوتية (تون). ويُقسم إلى أربعة أرباع متساوية.
3. علامات التحويل:
• نصف بيمول: تخفض الصوت ربع تون.
• بيمول ونصف: تخفض الصوت ثلاثة أرباع التون.
• نصف دييز: ترفع الصوت نصف تون.
• دييز ونصف: ترفع الصوت ثلاثة أرباع التون.
4. الجنس: هو البعد الذي بالأربعة، وهو تتابع أربع درجات تحصر بينها ثلاث مسافات صوتية. أما البعد الذي بالخمسة، فيُسمى جنس خماسي، وهو تتابع خمس درجات تحصر بينها أربع مسافات صوتية.
5. الجذع: هو الجنس الذي يبدأ به السلم عند الصعود.
6. الفرع: هو الجنس المكمل لسلم عند الصعود.
7. السلم الموسيقي: هو جمع بين جنسين مربوطين بشكل متصل، مثل سلم بيات.



أو منفصل، أي بوضع بعد طنيني (مسافة تون) بينهما مثل سلم راست.



أو متداخل، أي تشترك إحدى المسافات في الجنسين، مثل هزام.



حيث يكون السلم ثماني درجات متتابعة، الصوت الثامن منها هو جواب للصوت الأول.
8. السلم الأساسي: هو السلم الذي يبدأ بجذع من جنس خاص يسمى باسمه. وبذلك يكون عدد السلالم الأساسية بعدد الأجناس المختلفة عن بعضها بتسلسل المسافات بين درجاتها.
9. السلم الفرعي: هو السلم الذي يبدأ بجذع، جنسه أحد أجناس السلالم الأساسية مع تغير الجنس الثاني (الفرع).
10. الطبع هو كيفية التعامل مع درجات السلم الموسيقي وأجناسه والعلامات الموسيقية العرضية المستخدمة عند التأليف.

القاعدة الثانية: الأجناس والمسافات المحصورة بين درجاتها على أساس أرباع التون. وهي الأجناس التي شاع استعمالها في المؤلفات الموسيقية والغنائية العربية. ويمكن إضافة أجناس جديدة لا حصر لها بترتيب تسلسل مسافات جديدة بين الدرجات الموسيقية.
وبالإمكان زيادة عدد السلالم الموسيقية الأساسية (أنظر الجدول) باستعمال أجناس جديدة تكون جذع هذه السلالم واستكمال السلم بجنس آخر. أما السلالم الموسيقية الفرعية مثل: سلم نكريز - سلم سوزناك – سلم سوزدلار – سلم حسيني – سلم بيات شوري – سلم طرزنوين – سلم حجازكار – سلم زنجران – سلم جهاركاه – سلم زنكلاه – سلم بستنكار – سلم فرحفزا – سلم لامي ... وغيرها، ولكونها تستند في جذعها على جنس من أجناس السلالم الأساسية الأربعة عشر وتغير جنس الفرع فقط، فلا داعي لاعتمادها واعتبار التغير الحاصل في جنس الفرع تغيراً عرضياً. كذلك يمكننا استحداث سلالم موسيقية فرعية أخرى عديدة بتغيير فرع السلم.
مما تقدم، نستخلص أن عدد السلالم المستخدمة في الموسيقى العربية هي أربعة عشر سلماً أساسياً، أما السلالم الفرعية فبالإمكان أن يكون عددها (182) مائة واثنين وثمانين سلماً على الأقل وذلك بوضع كل جنس جذعاً، وإكمال السلم بأحد الثلاثة عشر جنساً الآخر. إضافةً إلى تغيير نوعية الربط بين الأجناس، وبذلك يتضاعف عدد السلالم وهكذا، ولا بد من وضع أسماء لكل هذه السلالم. فلنتأمل هذا الإرباك والتشويش لدارسي الموسيقى العربية. أما الطبوع فلا يمكن حصرها بسبب إمكان تنوع الإبداع الموسيقي في التأليف. إذ أننا لو حللنا كل سلم موسيقي لوجدناه محتوياً على أكثر من جنس موسيقي. ولنأخذ مثلاً سلم راست دو ونتفحصه فإننا نجد فيه الأجناس التالية: جنس راست دو – جنس بيات ري – جنس سيناه مي – جنس راست صول – جنس بيات لا – جنس عراق سي. كل ذلك في سلم واحد، فهل يُعقل أننا كلما ركّزنا في التأليف على جنسين غير جنسي الجذع والفرع الخاصين بالسلم نطلق عليه إسماً خاصاً؟ (أنظر الشكل رقم 3).
إضافة إلى ذلك، فإذا بدأنا في التأليف الموسيقي من النهاية العليا للسلم لأُطلق عليه إسم آخر غير الإسم الذي يُطلق عليه فيما لو بدأناه من درجة ارتكازه الأساسية، كما هو الحالفيما يسمى بمقام المحيّر.... وهكذا. لذلك يجب حصر عدد الطبوع في أربعة عشر طبعاً هي عدد السلالم الأساسية، والتي يبرز فيها عند التأليف الموسيقي والغنائي شخصية جنسيّ الجذع والفرع المكونين للسلم الموسيقي المحدد. وهكذا نكون قد اختصرنا الأسماء المتعددة والتعقيدات المشوشة، وسهّلنا على الدارس للموسيقى العربية المعلومات بوضعها في أطر لها قواعد ثابتة منطقية غير قابلة للتأويل، وخلّصنا نظريات موسيقانا من الشوائب والأخطاء، لننطلق بها نحو آفاق عالمية جديدة، بعد أن نعد الكوادر الدارسة بأعداد كبيرة وبمستوى علمي عال.






الشكل رقم 3



المصادر:

الفارابي: كتاب الموسيقى الكبير

سليم الحلو: تاريخ الموسيقى الشرقية

د. شهرزاد قاسم حسن: دراسات في الموسيقى العربية

د. صالح المهدي: مقامات الموسيقى العربية

محمد صلاح الدين: قواعد الموسيقى العربية وتذوقها




الجدول


سلم راست دو


سلم نهاوند دو



سلم عجم دو



سلم كردي دو



سلم بيات ري



سلم حجاز ري



سلم سيكا مي نصف بيمول



سلم هزام مي نصف بيمول



سلم عراق مي نصف بيمول



سلم مستعار مي نصف بيمول



سلم نواثر دو



سلم صبا ري



سلم صبا كرد ري



سلم اثر كرد ري





حميد البصري

* باحث موسيقي من العراق.

* أستاذ مادتي القانون ونظريات الموسيقى العربية في المعهد العالي للموسيقى والمعهد العربي للموسيقى بدمشق.

* قائد فرقة المعهد العالي للموسيقى العربية.